وقوله (تعالى):
فظلت أعناقهم لها خاضعين ؛ معناه: " فتظل أعناقهم " ؛ لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل؛ تقول: " إن تأتني أكرمتك " ؛ معناه " أكرمك " ؛ و " إن أتيتني وأحسنت " ؛ معناه: " وتحسن؛ وتجمل " ؛ وقال: " خاضعين " ؛ وذكر الأعناق؛ لأن معنى خضوع الأعناق هو خضوع أصحاب الأعناق؛ لما لم يكن الخضوع إلا لخضوع الأعناق؛ جاز أن يعبر عن المضاف إليه؛ كما قال الشاعر:
رأت مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
لما كانت السنون لا تكون إلا بمر؛ أخبر عن السنين؛ وإن كان أضاف إليها المرور؛ ومثل ذلك أيضا قول الشاعر:
[ ص: 83 ] مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
كأنه قال: " تسفهتها الرياح " ؛ لما كانت الرياح لا تكون إلا بالمرور؛ وجاء في التفسير " أعناقهم " ؛ يعنى به كبراؤهم؛ ورؤساؤهم؛ وجاء في اللغة: " أعناقهم " : جماعاتهم؛ يقال: " جاء لي عنق من الناس " ؛ أي: جماعة؛ وذكر بعضهم وجها آخر؛ قالوا: " فظلت أعناقهم لها خاضعين هم " ؛ وأضمرهم؛ وأنشد:
ترى أرباقهم متقلديها كما ... صدئ الحديد عن الكماة
وهذا لا يجوز في القرآن؛ وهو على بدل الغلط يجوز في الشعر؛ كأنه قال: " يرى أرباقهم يرى متقلديها " ؛ كأنه قال: " يرى قوما متقلدين أرباقهم؛ فلو كان على حذف " هم " ؛ لكان مما يجوز في الشعر أيضا.