وقوله - عز وجل -:
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى ؛
[ ص: 345 ] موضع " إذ " : نصب؛ المعنى: اذكر هذه القصة؛ وقوله " رب أرني " ؛ أصله: " أرئني " ؛ ولكن المجمع عليه في كلام العرب؛ والقراءة؛ طرح الهمزة؛ ويجوز: " أرني " ؛ وقد فسرنا إلقاء هذه الكسرة فيما سلف من الكتاب؛ وموضع " كيف " : نصب بقوله:
تحي الموتى ؛ أي: بأي حال تحيي الموتى؛ وإبراهيم - عليه السلام - لم يكن شاكا؛ ولكنه لم يكن شاهد إحياء ميت؛ ولا يعلم كيف تجتمع العظام المتفرقة البالية؛ المستحيلة؛ من أمكنة متباينة؛ فأحب علم ذلك مشاهدة؛ ويروى في التفسير أنه كان مر بجيفة على شاطئ البحر؛ والحيتان تخرج من البحر؛ فتنتف من لحم الجيفة؛ والطير تحط عليها؛ وتنسر منها؛ ودواب الأرض تأكل منها؛ ففكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة؛ فحل في حيتان البحر؛ وطير السماء؛ ودواب الأرض؛ ثم يعود ذلك حيا؛ فسأل الله - تبارك وتعالى - أن يريه كيف يحيي الموتى؛ وأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير؛ وهو قوله - عز وجل -:
فصرهن إليك ؛ وتقرأ: " فصرهن إليك " ؛ بالضم؛ والكسر؛ قال أهل اللغة: معنى " صرهن " : أملهن إليك؛ واجمعهن إليك؛ قال ذلك أكثرهم؛ وقال بعضهم: " صرهن إليك " : اقطعهن؛ فأما نظير " صرهن " : أملهن واجمعهن؛ فقول الشاعر:
[ ص: 346 ] وجاءت خلعة دهس صفايا ... يصور عنوقها أحوى زنيم
المعنى أن هذه الغنم يعطف عنوقها هذا الكبش الأحوى؛ ومن قال: " صرت " : قطعت؛ فالمعنى: " فخذ أربعة من الطير فصرهن " ؛ أي: قطعهن؛
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ؛ المعنى: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا؛ ففعل ذلك
إبراهيم - عليه السلام -؛ ثم دعاهن فنظر إلى الريش يسعى بعضه إلى بعض؛ وكذلك العظام؛ واللحم. وقوله - عز وجل -:
واعلم أن الله عزيز حكيم ؛ " عزيز " : أي: لا يمتنع عليه ما يريد؛ " حكيم " ؛ فيما يدبر؛ لا يفعل إلا ما فيه الحكمة؛ فشاهد
إبراهيم - عليه السلام - ما كان يعلمه غيبا؛ رأي عين؛ وعلم كيف يفعل الله ذلك؛ فلما قص الله ما فيه البرهان؛ والدلالة على أمر توحيده؛ وما آتاه الرسل من البينات؛ حث على الجهاد؛ وأعلن أن من عانده بعد هذه البراهين فقد ركب من الضلال أمرا عظيما؛ وأن من جاهد من كفر بعد هذا البرهان فله في جهاده ونفقته فيه الثواب العظيم؛ وأن الله - عز وجل - وعد في الجنة عشر أمثالها من الجهاد؛ ووعد في الجهاد أن يضاعف الواحد بسبع مائة مرة؛ لما في إقامة الحق من التوحيد؛ وما في الكفر من عظم الفساد؛ فقال:
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ؛
[ ص: 347 ] أي: جواد لا ينقصه ما يتفضل به من السعة؛ عليم حيث يضعه.