وقوله - عز وجل -:
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ؛ إن قال قائل: ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهل الجنة؛ وما أعد للكافرين; قيل: يتصل هذا بقوله:
فلا تجعلوا لله أندادا ؛ لأن الله - عز وجل - قال:
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ؛ وقال:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ؛ فقال الكافرون: إن إله محمد يضرب الأمثال بالذباب؛ والعنكبوت؛ فقال الله - عز وجل -:
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ؛ أي؛ لهؤلاء الأنداد الذين اتخذتموهم من دون الله؛ لأن هذا في الحقيقة مثل هؤلاء الأنداد.
فأما إعراب " بعوضة " ؛ فالنصب من جهتين في قولنا؛ وذكر بعض النحويين جهة ثالثة؛ فأما أجود هذه الجهات فأن تكون " ما " ؛ زائدة مؤكدة؛ كأنه قال: " إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا؛ ومثلا بعوضة " ؛ و " ما " ؛ زائدة مؤكدة؛ نحو قوله:
فبما رحمة من الله لنت لهم ؛ المعنى: فبرحمة من الله
[ ص: 104 ] حقا " ؛ ف " ما " ؛ في التوكيد بمنزلة " حق " ؛ إلا أنه لا إعراب لها؛ والخافض والناصب يتخطاها إلى ما بعدها؛ فمعناها التوكيد؛ ومثلها في التوكيد " لا " ؛ في قوله:
لئلا يعلم أهل الكتاب ؛ معناه: لأن يعلم أهل الكتاب؛ ويجوز أن يكون " ما " ؛ نكرة؛ فيكون المعنى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب شيئا مثلا " ؛ وكأن " بعوضة " ؛ في موضع وصف شيء؛ كأنه قال: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء؛ بعوضة فما فوقها " ؛ وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها؛ والقولان الأولان قول النحويين القدماء؛ والاختيار عند جمع البصريين أن يكون " ما " لغوا؛ والرفع في " بعوضة " ؛ جائز في الإعراب؛ ولا أحفظ من قرأ به؛ ولا أعلم هل قرأ به أحد؛ أم لا؛ فالرفع على إضمار " هو " ؛ كأنه قال: " مثلا الذي هو بعوضة " ؛ وهذا عند
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ضعيف؛ وعنه مندوحة؛ ولكن من قرأ: " تماما على الذي أحسن " - وقد قرئ به -؛ جاز أن يقرأ: " مثلا ما بعوضة " ؛ ولكنه في " الذي أحسن " ؛ أقوى؛ لأن " الذي " ؛ أطول؛ وليس ل " الذي " ؛ مذهب غير الأسماء؛ وقالوا في معنى قوله: " فما فوقها " ؛ قالوا في ذلك قولين؛ قالوا: " فما فوقها " : أكبر منها؛ وقالوا: " فما فوقها " : في الصغر؛ وبعض النحويين يختارون الأول؛ لأن البعوضة كأنها نهاية في الصغر فيما يضرب به المثل؛ والقول الثاني مختار أيضا؛ لأن المطلوب هنا؛ والغرض الصغر؛ وتقليل المثل بالأنداد.
قوله - عز وجل -:
فأما الذين آمنوا ؛ يعني صدقوا؛
فيعلمون ؛ أن هذا المثل
[ ص: 105 ] حق؛
وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ؛ أي: ما أراد بالذباب؛ والعنكبوت مثلا; فقال الله - عز وجل -:
يضل به كثيرا ؛ أي: يدعو إلى التصديق به الخلق جميعا؛ فيكذب به الكفار؛ فيضلون به.
وما يضل به إلا الفاسقين ؛ يدل على أنهم المضلون به؛ " ويهدي به كثيرا " ؛ يزاد به المؤمنون هداية؛ لأن كلما ازدادوا تصديقا فقد ازدادوا هداية؛ والفاء دخلت في جواب " أما " ؛ في قوله: " فيعلمون " ؛ لأن " أما " ؛ تأتي بمعنى الشرط؛ والجزاء؛ كأنه إذا قال: " أما زيد فقد آمن؛ وأما
عمرو فقد كفر " ؛ فالمعنى: مهما يكن من شيء فقد آمن زيد؛ ومهما يكن من شيء فقد كفر
عمرو ؛ وقوله: " ماذا " ؛ يجوز أن يكون " ما " ؛ و " ذا " ؛ اسما واحدا؛ يكون موضعهما نصبا؛ المعنى: أي شيء أراد الله بهذا مثلا؟ ويجوز أن يكون " ذا " ؛ مع " ما " ؛ بمنزلة " الذي " ؛ فيكون المعنى: ما الذي أراده الله بهذا مثلا؟ أو: أي شيء الذي أراده الله بهذا مثلا؟ ويكون " ما " ؛ هنا؛ رفعا بالابتداء؛ و " ذا " ؛ في معنى " الذي " ؛ وهو خبر الابتداء؛ وإعراب " الفاسقين " : نصب؛ كأن المعنى: وما يضل به أحد إلا الفاسقين.