وقوله - عز وجل - :
حرمت عليكم الميتة ؛ أصله : " الميتة " ؛ بالتشديد؛ إلا أنه مخفف؛ ولو قرئت : " الميتة " ؛ لجاز؛ يقال : " ميت " ؛ و " ميت " ؛ والمعنى واحد؛ وقال بعضهم : " الميت " ؛ يقال لما لم يمت؛ و " الميت " ؛ لما قد مات؛ وهذا خطأ؛ إنما " ميت " ؛ يصلح لما قد مات؛ ولما سيموت؛ قال الله - عز وجل - :
إنك ميت وإنهم ميتون ؛ وقال الشاعر - في تصديق أن " الميت " ؛ و " الميت " ؛ بمعنى واحد :
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
فجعل " الميت " ؛ مخففا من " الميت " ؛ وقوله :
والدم ؛ قيل : إنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر؛ ويشوونها؛ ويأكلونها؛ فأعلم الله - عز وجل - أن الدم المسفوح - أي : المصبوب - حرام؛ فأما المتلطخ بالدم فهو كاللحم في الحل؛ وقوله :
وما أهل لغير الله به ؛ موضعه " رفع " ؛ والمعنى : " وحرم عليكم ما أهل لغير الله به " ؛ ومعنى " أهل لغير الله به " ؛ ذكر عليه اسم غير الله؛ وقد فسرنا أن الإهلال : رفع الصوت
[ ص: 145 ] بالشيء؛ فما يتقرب به؛ من الذبح لغير الله؛ أو ذكر غير اسمه؛ فحرام؛ ولحم الخنزير حرام؛ حرم الله أكله؛ وملكه؛ والخنزير يشتمل على الذكر؛ والأنثى؛ وقوله :
والمنخنقة ؛ وهي التي تنخنق بربقتها؛ أي : بالحبل الذي تشد به؛ وبأي جهة اختنقت فهي حرام؛ وقوله :
والموقوذة ؛ وهي التي تقتل ضربا؛ يقال : " وقذتها؛ أوقذها؛ وقذا " ؛ و " أوقذتها؛ أوقذها؛ إيقاذا " ؛ إذا أثخنتها ضربا؛ وقوله - عز وجل - :
والنطيحة ؛ وهي التي تنطح؛ أو تنطح؛ فتموت؛ وقوله :
وما أكل السبع ؛ موضع " ما " ؛ أيضا : رفع؛ عطف على ما قبلها؛ وقوله :
إلا ما ذكيتم ؛ أي : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه التي وصفنا؛ وموضع " ما " : نصب؛ أي : حرمت عليكم هذه الأشياء؛ إلا الشيء الذي أدرك ذبحه منها؛ وكل ذبح " ذكاة " ؛
ومعنى " التذكية " ؛ أن يدركها وفيها بقية تشخب معها الأوداج؛ وتضطرب اضطراب المذبوح الذي أدركت ذكاته؛ وأهل العلم يقولون : إن أخرج السبع الحشوة؛ أو قطع الجوف قطعا خرج معه الحشوة؛ فلا ذكاة لذلك؛ وتأويله أنه يصير في حالة ما لا يؤثر في حياته الذبح؛ وأصل " الذكاء " ؛ في اللغة كلها : تمام الشيء؛
[ ص: 146 ] فمن ذلك الذكاء في السن؛ والفهم؛ وهو تمام السن؛ قال
nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل : " الذكاء في السن " : أن يأتي على قروحه سنة؛ وذلك تمام استكمال القوة؛ قال
زهير :
يفضله إذا اجتهدوا عليه ... تمام السن منه والذكاء
وقيل : " جري المذكيات غلاب " ؛ أي : " جري المسان التي قد تأسنت؛ وتأويل تمام السن : النهاية في الشباب؛ فإذا نقص عن ذلك أو زاد؛ فلا يقال لها : " الذكاء " ؛ والذكاء في الفهم أن يكون فهما تاما؛ سريع القبول؛ و " ذكيت النار " ؛ إنما هو من هذا؛ تأويله : أتممت إشعالها.
إلا ما ذكيتم ؛ ما أذكيتم ذبحه على التمام؛ وقوله :
وما ذبح على النصب ؛ و " النصب " : الحجارة التي كانوا يعبدونها؛ وهي الأوثان؛ واحدها " نصاب " ؛ وجائز أن يكون واحدا؛ وجمعه " أنصاب " ؛ وقوله :
وأن تستقسموا بالأزلام ؛ موضع " أن " : رفع؛ والمعنى : وحرم عليكم
الاستقسام بالأزلام؛ وواحد الأزلام : " زلم " ؛ و " زلم " ؛ وهي سهام كانت في الجاهلية؛ مكتوب على بعضها " أمرني ربي " ؛ وعلى بعضها : " نهاني ربي " ؛ فإذا أراد الرجل سفرا؛ أو أمرا يهتم به
[ ص: 147 ] اهتماما شديدا؛ ضرب تلك القداح؛ فإن خرج السهم الذي عليه " أمرني ربي " ؛ مضى لحاجته؛ وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " ؛ لم يمض في أمره؛ فأعلم الله - عز وجل - أن ذلك حرام؛ ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين : " لا تخرج من أجل نجم كذا " ؛ و " اخرج من أجل طلوع نجم كذا " ؛ لأن الله - جل وعز - قال :
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ؛ وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=685732خمس لا يعلمهن إلا الله... " ؛ وذكر الآية التي في آخر سورة " لقمان " : إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ؛ وهذا هو دخول في علم الله؛ الذي هو غيب؛ وهو حرام؛ كالأزلام التي ذكرها الله - جل وعز - أنها حرام؛ والاستقسام بالأزلام فسق؛ و " الفسق " : اسم لكل ما أعلم الله أنه مخرج عن الحلال إلى الحرام؛ فقد ذم الله به جميع الخارجين من متعبداته؛ وأصله عند أهل اللغة : " قد فسقت الرطبة " ؛ إذا خرجت عن قشرها؛ ولو كان بعض هذه المرفوعات نصبا على المعنى لجاز في غير القرآن؛ لو قلت : " حرمت على الناس الميتة والدم ولحم الخنزير " ؛ وتحمله على معنى " وحرم الله الدم ولحم الخنزير " ؛ لجاز ذلك؛ فأما القرآن فخطأ فيه أن نقرأ بما لم يقرأ به من هو قدوة في القراءة؛ لأن القراءة سنة لا تتجاوز؛ وقوله :
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ؛ " اليوم " : منصوب على الظرف؛ وليس يراد به - والله أعلم - يوما بعينه.
[ ص: 148 ] معناه : الآن يئس الذين كفروا من دينكم؛ وهذا كما تقول : " أنا اليوم قد كبرت " ؛ وهذا الشأن لا يصلح في اليوم " ؛ تريد " أنا الآن " ؛ و " في هذا الزمان " ؛ ومعناه أن قد حول الله الخوف الذي كاد يلحقكم منهم اليوم؛ ويئسوا من بطلان الإسلام؛ وجاءكم ما كنتم توعدون من قوله :
ليظهره على الدين كله ؛ و " الدين " ؛ اسم لجميع ما تعبد الله خلقه؛ وأمرهم بالإقامة عليه؛ والذي به يجزون؛ والذي أمرهم أن يكون عادتهم؛ وقد بينا ذلك في قوله :
مالك يوم الدين
وقوله :
فلا تخشوهم واخشون ؛ أي : فليكن خوفكم لله وحده؛ فقد أمنتم أن يظهر دين على الإسلام؛ وكذلك - والله أعلم - قوله :
اليوم أكملت لكم دينكم ؛ أي : الآن أكملت لكم الدين بأن كفيتكم خوف عدوكم؛ وأظهرتكم عليهم؛ كما تقول : " الآن كمل لنا الملك؛ وكمل لنا ما نريد؛ بأن كفينا من كنا نخافه " ؛ وقد قيل أيضا : " اليوم أكملت لكم دينكم " ؛ أي : أكملت لكم فرض ما تحتاجون إليه في دينكم؛ وذلك جائز حسن؛ فأما أن يكون دين الله في وقت من الأوقات غير كامل؛ فلا. وقوله - عز وجل - :
فمن اضطر في مخمصة ؛ أي : فمن دعته الضرورة في مجاعة؛ لأن " المخمصة " : شدة ضمور البطن؛
غير متجانف لإثم [ ص: 149 ] أي : غير مائل إلى إثم؛
فإن الله غفور رحيم ؛ أي : فإن الله أباحه ذلك رحمة منه؛ وتسهيلا على خلقه؛ وكذلك
فمن اضطر غير باغ ولا عاد ؛ أي : غير آكل لها على جهة الاستحلال؛ ولا عاد؛ أي : مجاوز لقدر الحاجة؛ وغير آكل لها على جهة التلذذ؛
فإن الله غفور رحيم