تفضيل الموحدين
ثم فضل الموحدين من بينهم بمنه العظيم بنور التوحيد فأحيا قلوبهم بالحياة حتى عرفوه ووجدوه فأوفرهم حظا من الحياة ومن علم التوحيد أعلمهم بالعبودية وأكيسهم
[ ص: 152 ] فيها وأشدهم قياما على الساق وأصغاهم أذنا إلى أمره وأكثرهم ملاحظة إلى تقديره وتدبيره وأجهلهم به أعجزهم عن ذلك
القلب يدعو إلى الله والنفس تدعو إلى الشهوات
فالقلب بما فيه من كنوز المعرفة يدعو إلى الله وطلب رضوانه والنفس بما فيها من الهوى تدعو إلى الشهوات ولذات الدنيا وهي الفانية التي توجب عليك غدا الحساب الثقيل والحبس الطويل والسؤال المهيل فمن قلت كنوزه استولت النفس على قلبه ووهنت إمرته وأخذت بعنانه فسبته فبينما هو أمير إذ هو أسير في يدي الخارجي فعندها يعطل التدبير وخربت الكورة وضاعت الرعية فبان العلم
وإن النفس محتاجة إذ كانت بهذه الحال والقلب قليل الكنوز وإذا قلت الكنوز قلت الجنود وتفرق الحراس وضاعت السياسة فالنفس محتاجة إلى أن تشتغل بالأعمال المتعبة الشاغلة لها حتى لا تصل إلى الفساد
فلو أن هذا الأمير عرف أن هذا الخارجي ممن لا يؤمن خروجه عليه وهو في جواره وبلدته فأخذ الأمر بالحزم فعمد إلى كل
[ ص: 153 ] من يجالسه ويثق به ويستظهر به فحا بينه وبينه وعمد إلى أسلحته فأخذها منه وقلده أمورا أتعبه فيها وشغله عن الفكر في ذلك الأمر الذي يتخوف منه فكذلك عامل الله إذا لم يفتح له الباب فيطالع فيكثر كنوزه ويجم علمه بالله وخاف نفسه أن تخرج عليه كما وصفنا من أمر الخارجي الذي يشتهي الإمرة
فمن الحزم أن يقطع عنه الشهوات وأن ينظر إلى كل شيء من أمور الآخرة .يحمل عنه الهوى أن ينتقل عنه إلى ضده مما ليس له فيه هوى لأن الطاعات كثيرة فرب طاعة تملكه حلاوتها فتصير هوى فينتقل إلى ما يتعب فيه وليس له فيه هوى وأن يتعبه بالغموم والهموم حتى ينغص عليه عيشه الذي استطابته نفسه بلهوها ولعبها وبطالتها فإن فتح له صار ملكا من الملوك الذين بالكنوز والهدايا والفوائد التي تأتيه من رب العالمين وإن لم يفتح له فأجر تعبه عند الملي الوفي الواحد الواحد بعشرة
[ ص: 154 ] والواحد بسبعمائة والواحد بالأضعاف الكثيرة ونفسه ذليلة مقهورة في ذلك التعب والنصب 66
فبنوا إسرائيل حظوظهم من الله تعالى كثيرة وهذه الأمة أوفر حظا وذلك قوله تعالى
قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم
وروي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما أعطيت أمة من الأمم من اليقين ما أعطيت أمتي
وكذلك عن
عيسى عليه السلام أنه قال في هذه الأمة فلذلك صارت بنو إسرائيل في شدة من الأعمال وتعب من الأذكار فكانوا يلبسون المسوح ويجيعون البطون ويلزق أحدهم الترقوة فيشدها بسلسلة إلى سارية يتعبد لله وإذا أذنب أحدهم أصبح مكتوبا على بابه عقوبة خطيئتك أن تقطع أذنك
[ ص: 155 ] أو عضوا من أعضائك وإذا أصاب أحدهم بول أو نجاسة لم يطهر حتى يقرضه بالمقراض وصدقتهم تقبل بنار القربان وعليهم من الآصار والأغلال والتحريم ما تقشعر منه الذوائب والشعور وقتل النفوس عند عبادة العجل
وهذه الأمة توفرت كنوزها وجمت علومها بالله تعالى بفضل يقينها فخفف عنهم الآصار وأطلقوا من أغلال كثيرة اكتفى من العامة بالاستغفار وستر عليها الذنوب وجعلت التوبة منهم إلى الله لا إلى عقوبة الأجساد فقال لأولئك توبتكم إلى بارئكم من عبادة العجل أن تقتلوا أنفسكم وقال لهذه الأمة
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال للنصارى وهم من أولئك الصنف حين قالوا المسيح ابن الله والثالث ثلاثة
أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ ص: 156 ] فجعل توبتهم بافترائهم عليه الاستغفار لأنه في وقت نبي الله
محمد صلى الله عليه وسلم وفي زمانه فلم يقبل ذلك منهم في ذلك الوقت عندما عبدوا العجل إلا قتل النفس وقبل في هذا الزمان الاستغفار منهم من عبادتهم عزيرا وعبادة النصارى المسيح لأن هذا وقت إقبال الله على هذه الأمة وتفضيلهم باليقين والعلم بالله
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=32لمعاذ رضي الله عنه (أخلص يكفك القليل من العمل
فإنما دعاه إلى الإخلاص لله قلبا وقولا وفعلا فقليل العمل من مثل هذا يأتي على جميع العمال من سواه ولذلك
قال (صلى الله عليه وسلم يا حبذا يوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى وصيامهم ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل عند الله من أمثال الجبال عبادة من الآخرين