[ ص: 80 ] القول في نظم الكلام ومكان النحو منه
القول في النظم وتفسيره
تفسير النظم وأسراره ودقائقه
74- واعلم أن هاهنا أسرارا ودقائق، لا يمكن بيانها إلا بعد أن تقدم جملة من القول في النظم وفي تفسيره والمراد منه، وأي شيء هو؟ وما محصوله ومحصول الفضيلة فيه ؟ فينبغي لنا أن نأخذ في ذكره وبيان أمره، وبيان المزية التي تدعى له من أين تأتيه؟ وكيف تعرض فيه؟ وما أسباب ذلك وعلله وما الموجب له.
وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم وتفخيم قدره، والتنويه بذكره وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ . وبتهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلا به، وأنه القطب الذي عليه المدار والعمود الذي به الاستقلال . وما كان بهذا المحل من الشرف، وفي هذه المنزلة من الفضل، وموضوعا هذا الموضع من المزية وبالغا هذا المبلغ من الفضيلة، كان حرى بأن توقظ له الهمم، وتوكل به النفوس، وتحرك له الأفكار، وتستخدم فيه الخواطر - وكان العاقل جديرا أن لا يرضى من نفسه بأن يجد فيه سبيلا إلى مزية علم، وفضل استبانة، وتلخيص حجة، وتحرير دليل . ثم يعرض
[ ص: 81 ] عن ذلك صفحا ويطوي دونه كشحا، وأن يربأ بنفسه وتدخل عليه الأنفة من أن يكون في سبيل المقلد الذي لا يبت
حكما ولا يقتل الشيء علما ولا يجد ما يبرئ من الشبهة، ويشفي غليل الشاك ، وهو يستطيع أن يرتفع عن هذه المنزلة، ويباين من هو بهذه الصفة، فإن ذلك دليل ضعف الرأي وقصر الهمة ممن يختاره ويعمل عليه .
النظم هو توخي معاني النحو وبيان ذلك
75- اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها .
وذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك : " زيد منطلق " و " زيد ينطلق " وينطلق زيد " و " منطلق زيد " و " زيد المنطلق " و " المنطلق زيد " و " زيد هو المنطلق " و " زيد هو منطلق " .
وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك : إن تخرج أخرج، وإن خرجت خرجت، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج .
[ ص: 82 ]
وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك : جاءني زيد مسرعا وجاءني يسرع وجاءني وهو مسرع أو وهو يسرع وجاءني قد أسرع وجاءني وقد أسرع .
فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجيء به حيث ينبغي له.
وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى فيضع كلا من ذلك في خاص معناه نحو أن يجيء ب " ما " في نفي الحال، وب " لا " إذا أراد نفي الاستقبال، وب " إن " فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون، وب " إذا " فيما علم أنه كائن.
وينظر في الجمل التي تسرد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل، ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع " ثم " ، وموضع " أو " من موضع " أم "، وموضع " لكن " من موضع " بل " .
ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له.
76- هذا هو السبيل فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو
[ ص: 83 ] معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه .
شواهد على فساد النظم
77- هذه جملة لا تزداد فيها نظرا إلا ازددت لها تصورا وازدادت عندك صحة، وازددت بها ثقة، وليس من أحد تحركه لأن يقول في أمر النظم شيئا، إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها، ووافق فيها درى ذلك أو لم يدر . ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد النظم، فليس من أحد يخالف في نحو قول
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
وقول
nindex.php?page=showalam&ids=15155المتنبي :
ولذا اسم أغطية العيون جفونها من أنها عمل السيوف عوامل
وقوله :
الطيب أنت إذا أصابك طيبه والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وقوله :
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
[ ص: 84 ]
وقول
nindex.php?page=showalam&ids=11952أبي تمام :
ثانيه في كبد السماء ولم يكن كاثنين ثان إذ هما في الغار
وقوله :
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعا من راحتيك درى ما الصاب والعسل
وفي نظائر ذلك مما وصفوه بفساد النظم وعابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم أو تأخير أو حذف وإضمار أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم . وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله، أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها . ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم ثبت أن الحكم كذلك في مزيته والفضيلة التي تعرض فيه . وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئا غير توخي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم . والله الموفق للصواب .
شواهد على محاسن النظم
78- وإذ قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن
[ ص: 85 ] وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصا، دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر، من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم . وتأمله فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت؟ وعندما ظهرت فإنك ترى عيانا أن الذي قلت لك كما قلت. اعمد إلى قول
nindex.php?page=showalam&ids=13823البحتري :
بلونا ضرائب من قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثات عزما وشيكا ورأيا صليبا
تنقل في خلقي سؤدد سماحا مرجى وبأسا مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخا وكالبحر إن جئته مستثيبا
فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ووجدت لها اهتزازا في نفسك فعد فانظر في السبب واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر وعرف ونكر وحذف وأضمر وأعاد وكرر وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله ثم لطف موضع صوابه وأتى مأتى يوجب الفضيلة .
أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله : " هو المرء أبدت له الحادثات " ثم قوله : " تنقل في خلقي سؤدد " بتنكير السؤدد وإضافة الخلقين
[ ص: 86 ] إليه . ثم قوله : " فكالسيف " وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ لأن المعنى : لا محالة فهو كالسيف . ثم تكريره الكاف في قوله : " وكالبحر " ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه . ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر وذلك قوله " صارخا " هناك " ومستثيبا " هاهنا . لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو في حكم ما عددت فاعرف ذلك .
79- وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى فانظره إلى قول
إبراهيم بن العباس :
فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب وسلط أعداء وغاب نصير
تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور
وإني لأرجو بعد هذا محمدا لأفضل ما يرجى أخ ووزير
فإنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة، ومن الحسن والحلاوة ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو " إذ نبا " على عامله الذي هو " تكون " . وأن لم يقل : فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر . ثم أن قال : " تكون " ولم يقل : " كان " ثم أن نكر " الدهر " ولم يقل : " فلو إذ نبا الدهر " ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد . ثم أن قال : " وأنكر صاحب " ولم يقل : وأنكرت صاحبا . لا ترى في البيتين الأولين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حسنا في النظم، وكله من معاني النحو كما ترى . وهكذا السبيل أبدا في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم وفضل وشرف أحيل فيهما عليه .