تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل مضارع في الاستفهام
107- وإذ قد بينا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل ماض، فينبغي أن ننظر فيه والفعل مضارع . والقول في ذلك أنك إذا قلت : أتفعل؟ وأأنت تفعل لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال . فإن أردت الحال كان المعنى شبيها بما مضى في الماضي، فإذا قلت : أتفعل؟ كان المعنى على أنك أردت أن تقرره بفعل هو يفعله، وكنت كمن يوهم أنه لا يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن . وإذا قلت : أأنت تفعل؟ كان المعنى على أنك تريد أن تقرره بأنه الفاعل . وكان أمر الفعل في وجوده ظاهرا، وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن . وإن أردت ب " تفعل " المستقبل كان المعنى : إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه، وتزعم أنه لا يكون . أو أنه لا ينبغي أن يكون، فمثال الأول :
[ ص: 117 ] أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟
فهذا تكذيب منه لإنسان تهدده بالقتل وإنكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه . ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله، فتجهله في طمعه فتقول : أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره؟ أتجد عنده ما تحب وقد فعلت وصنعت وعلى ذلك قوله تعالى : «
أنلزمكموها وأنتم لها كارهون » [سورة هود: 28 ] .
ومثال الثاني قولك لرجل يركب الخطر : أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ أتغرر بنفسك- وقولك للرجل يضيع الحق : أتنسى قديم إحسان فلان؟ أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن تغير الزمان كما قال :
أأترك أن قلت دراهم خالد زيارته إني إذا للئيم
تفسير تقديم الفعل المضارع
108- وجملة الأمر أنك تنحو بالإنكار نحو الفعل، فإن بدأت بالاسم فقلت : أأنت تفعل؟ أو قلت : أهو يفعل؟ كنت وجهت الإنكار إلى نفس المذكور، وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل وممن يجيء منه، وأن يكون بتلك المثابة .
[ ص: 118 ]
تفسير ذلك أنك إذا قلت : أأنت تمنعني؟ أأنت تأخذ على يدي؟ صرت كأنك قلت : إن غيرك الذي يستطيع منعي والأخذ على يدي، ولست بذاك، ولقد وضعت نفسك في غير موضعك . هذا إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز، ولأنه ليس في وسعه .
وقد يكون أن تجعله لا يجيء منه لأنه لا يختاره ولا يرتضيه وأن نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه . ومثاله أن تقول : أهو يسأل فلانا؟ هو أرفع همة من ذلك . أهو يمنع الناس حقوقهم؟ هو أكرم من ذاك .
وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته، وأن نفسه نفس لا تسمو وذلك قولك : أهو يسمح بمثل هذا؟ أهو يرتاح للجميل؟ هو أقصر همة من ذلك، وأقل رغبة في الخير مما تظن.
109- وجملة الأمر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل إنه يفعل، أو قال هو : إني أفعل . وأردت ما تريده إذا قلت : ليس هو بالذي يفعل وليس مثله يفعل . ولا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت : أتفعل؟ ألا ترى أن من المحال أن تزعم أن المعنى في قول الرجل لصاحبه : أتخرج في هذا الوقت؟ أتغرر بنفسك؟ أتمضي في غير الطريق؟ أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك، وبموضع من يجيء منه ذاك . لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه، وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام . وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا : «
أنلزمكموها وأنتم لها كارهون » [سورة هود : 28 ]
[ ص: 119 ] أنا لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام، وأن غيرنا من يفعله - جل الله تعالى - .
وقد يتوهم المتوهم في الشيء من ذلك أنه يحتمل فإذا نظر لم يحتمل، فمن ذلك قوله :
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
وقد يظن الظان أنه يجوز أن يكون في معنى أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي، ويتعلق بأنه قال قبل :
يغط غطيط البكر شد خناقه ليقتلني والمرء ليس بقتال
ولكنه إذا نظر علم أنه لا يجوز وذاك لأنه قال : " والمشرفي مضاجعي " فذكر ما يكون منعا من الفعل . ومحال أن يقول هو ممن لا يجيء منه الفعل ثم يقول : إني أمنعه لأن المنع يتصور فيمن يجيء منه الفعل، ومع من يصح منه، لا من هو منه محال، ومن هو نفسه عنه عاجز، فاعرفه .