[ ص: 174 ] الفروق في الخبر
الاسم والفعل في الإثبات
وإذ قد عرفت هذا الفرق فالذي يليه من فروق الخبر هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم وبينه إذا كان بالفعل . وهو فرق لطيف تمس الحاجة في علم البلاغة إليه .
الفرق بين الخبر إذا كان بالاسم وإذا كان بالفعل وأمثلتهما
181- وبيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا بعد شيء .
182- وأما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء .
فإذا قلت : " زيد منطلق " . فقد أثبت الانطلاق فعلا له، من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئا فشيئا . بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك : " زيد طويل " و " عمرو قصير " . فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث، بل توجبهما وتثبتهما فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك : " زيد منطلق " . لأكثر من إثباته لزيد .
183- وأما الفعل، فإنه يقصد فيه إلى ذلك فإذا قلت : " زيد ها هو ذا ينطلق " . فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءا فجزءا، وجعلته يزاوله ويزجيه .
وإن شئت أن تحس الفرق بينهما من حيث يلطف فتأمل هذا البيت :
لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا لكن يمر عليها وهو منطلق
[ ص: 175 ]
هذا هو الحسن اللائق بالمعنى . ولو قلته بالفعل : " لكن يمر عليها وهو ينطلق " لم يحسن .
الفرق بين الخبر صفة مشبهة والخبر إذا كان فعلا
185- وإذا أردت أن تعتبره حيث لا يخفى أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه فانظر إلى قوله تعالى : «
وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد » [ سورة الكهف : 18 ] فإن أحدا لا يشك في امتناع الفعل هاهنا وأن قولنا : " كلبهم يبسط ذراعيه " لا يؤدي الغرض . وليس ذلك إلا لأن الفعل يقتضي مزاولة وتجدد الصفة في الوقت . ويقتضي الاسم ثبوت الصفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل، ومعنى يحدث شيئا فشيئا . ولا فرق بين : « وكلبهم باسط » وبين أن يقول : " وكلبهم واحد " مثلا في أنك لا تثبت مزاولة، ولا تجعل الكلب يفعل شيئا، بل تثبته بصفة هو عليها . فالغرض إذن تأدية هيئة الكلب .
ومتى اعتبرت الحال في الصفات المشبهة وجدت الفرق ظاهرا بينا، ولم يعترضك الشك في أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه . فإذا قلت : " زيد طويل " و "
عمرو قصير " لم يصلح مكانه : " يطول " و " يقصر " وإنما تقول : " يطول " و " يقصر " إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبي ونحو ذلك، مما يتجدد فيه الطول أو يحدث فيه القصر . فأما وأنت تحدث عن هيئة ثابتة، وعن شيء قد استقر طوله، ولم يكن ثم تزايد وتجدد، فلا يصلح فيه إلا الاسم .
[ ص: 176 ] أمثلة الفرق بين الخبر إذا كان فعلا وبينه إذا كان اسما
وإذا ثبت الفرق بين الشيء والشيء في مواضع كثيرة، وظهر الأمر، بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه، وجب أن تقضي بثبوت الفرق حيث ترى أحدهما قد صلح في مكان الآخر، وتعلم أن المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر، كما هو العبرة في حمل الخفي على الجلي ، وينعكس لك هذا الحكم أعني أنك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه، كذلك تجد الفعل يقع ثم لا يصلح الاسم مكانه، ولا يؤدي ما كان يؤديه .
فمن البين في ذلك قول
الأعشى :
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
معلوم أنه لو قيل : " إلى ضوء نار متحرقة " لنبا عنه الطبع وأنكرته النفس . ثم لا يكون ذاك النبو وذاك الإنكار من أجل القافية وأنها تفسد به، بل من جهة أنه لا يشبه الغرض ولا يليق بالحال .
وكذلك قوله :
أوكلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلي عريفهم يتوسم
1
وذاك لأن المعنى في بيت الأعشى على أن هناك موقدا يتجدد منه الإلهاب والإشعال حالا فحالا . وإذا قيل : متحرقة كان المعنى أن هناك نارا قد
[ ص: 177 ] ثبتت لها وفيها هذه الصفة ، وجرى مجرى أن يقال : " إلى ضوء نار عظيمة " في أنه لا يفيد فعلا يفعل - وكذلك الحال في قوله : " بعثوا إلي عريفهم يتوسم " . وذلك لأن المعنى : على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك حالا فحالا، وتصفح منه الوجوه واحدا بعد واحد . ولو قيل : " بعثوا إلي عريفهم متوسما " لم يفد ذلك حق الإفادة .
ومن ذلك قوله تعالى : «
هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض » [ سورة فاطر : 3 ] لو قيل : " هل من خالق غير الله رازق لكم " لكان المعنى غير ما أريد .
ولا ينبغي أن يغرك أنا إذا تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول في : " زيد يقوم " : إنه في موضع " زيد قائم " فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيهما استواء لا يكون من بعده افتراق، فإنهما لو استويا هذا الاستواء لم يكن أحدهما فعلا والآخر اسما، بل كان ينبغي أن يكونا جميعا فعلين أو يكونا اسمين .