عطف الجمل بالواو
253- واعلم أنه إذا كان المخبر عنه في الجملتين واحدا كقولنا : " هو يقول ويفعل ويضر وينفع ويسيء ويحسن ويأمر وينهى ويحل ويعقد ويأخذ ويعطي ويبيع ويشتري ويأكل ويشرب " وأشباه ذلك، ازداد معنى الجمع في " الواو " قوة وظهورا، وكان الأمر حينئذ صريحا .
وذلك أنك إذا قلت : " هو يضر وينفع " . كنت قد أفدت بالواو أنك أوجبت له الفعلين جميعا، وجعلته يفعلهما معا . ولو قلت : " يضر ينفع " من غير " واو " لم يجب ذلك بل قد يجوز أن يكون قولك ينفع رجوعا عن قولك يضر وإبطالا له . وإذا وقع الفعلان في مثل هذا في الصلة ازداد الاشتباك والاقتران حتى لا يتصور تقدير إفراد في أحدهما عن الآخر، وذلك في مثل قولك : " العجب من أني أحسنت وأسأت " و " يكفيك ما قلت وسمعت " و " أيحسن أن تنهى عن شيء وتأتي مثله " وذلك أنه لا يشتبه على عاقل أن المعنى على جعل الفعلين في حكم فعل واحد . ومن البين في ذلك قوله :
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
المعنى : لا تطمعوا أن تروا إكرامنا قد وجد مع إهانتكم، وجامعها في الحصول .
[ ص: 227 ] ومما له مأخذ لطيف في هذا الباب قول
nindex.php?page=showalam&ids=11952أبي تمام :
لهان علينا أن نقول وتفعلا ونذكر بعض الفضل منك وتفضلا
الصفة والتأكيد لا تحتاج إلى شيء يصلها بالموصوف أو المؤكد
- واعلم أنه كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله، فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه- وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد - كذلك يكون في الجمل ما تتصل من ذات نفسها بالتي قبلها، وتستغني بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها. وهي كل جملة كانت مؤكدة للتي قبلها ومبينة لها ، وكانت إذا حصلت لم تكن شيئا سواها، كما لا تكون الصفة غير الموصوف، والتأكيد غير المؤكد . فإذا قلت : " جاءني زيد الظريف " و " جاءني القوم كلهم " لم يكن " الظريف " و " كلهم " غير زيد وغير القوم .
- الجملة المؤكدة لا تحتاج إلى عاطف- وأمثلة ذلك
256 - ومثال ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى : « الم ذلك الكتاب لا ريب فيه » [ سورة البقرة :1، 2 ] . قوله « لا ريب فيه » بيان وتوكيد وتحقيق لقوله : " ذلك الكتاب " وزيادة تثبيت له، وبمنزلة أن تقول : " هو ذلك الكتاب هو ذلك الكتاب " فتعيده مرة ثانية لتثبته . وليس يثبت الخبر غير الخبر، ولا شيء يتميز به عنه فيحتاج إلى ضام يضمه إليه، وعاطف يعطفه عليه .
[ ص: 228 ]
257- ومثل ذلك قوله تعالى : « إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم » [ سورة البقرة : 6، 7 ] قوله تعالى : " لا يؤمنون " تأكيد لقوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " وقوله : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " تأكيد ثان أبلغ من الأول؛ لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر، كان في غاية الجهل وكان مطبوعا على قلبه لا محالة .
258- وكذلك قوله عز وجل « ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله » [ سورة البقرة : 8، 9 ] إنما قال " يخادعون " ولم يقل : " ويخادعون " لأن هذه المخادعة ليست شيئا غير قولهم : آمنا من غير أن يكونوا مؤمنين . فهو إذا كلام أكد به كلام آخر هو في معناه، وليس شيئا سواه.
وهكذا قوله عز وجل : « وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون » [ سورة البقرة : 14 ] وذلك لأن معنى قولهم : إنا معكم : إنا لم نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم نترك اليهودية. وقولهم : « إنما نحن مستهزئون » خبر بهذا المعنى بعينه لأنه لا فرق بين أن يقولوا : " إنا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلا استهزاء " . وبين أن يقولوا : " إنا لم نخرج من دينكم وإنا معكم " . بل هما في حكم الشيء الواحد . فصار كأنهم قالوا : " إنا معكم لم نفارقكم " . فكما لا يكون " إنا لم نفارقكم " شيئا غير " إنا معكم " كذلك لا يكون " إنما نحن مستهزئون " غيره " فاعرفه.
260- ومن الواضح البين في هذا المعنى قوله تعالى : « وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا » [ سورة لقمان : 7 ] لم يأت معطوفا
[ ص: 229 ] نحو " وكأن في أذنيه وقرا " لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر ، هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلا أن الثاني أبلغ وآكد في الذي أريد . وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعا أن ينفي أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معه، ويكون لها تأثير فيه، وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل . ولا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغ وآكد في جعله كذلك من حيث كان من لا يصح منه السمع، - وإن أراد ذلك، أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة من الذي يصح منه السمع إلا أنه لا يسمع إما اتفاقا وإما قصدا إلى أن لا يسمع. فاعرفه وأحسن تدبره .
ومن اللطيف في ذلك قوله تعالى : « ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم » [ سورة يوسف : 31 ] وذلك أن قوله : « إن هذا إلا ملك كريم » مشابك لقوله : " ما هذا بشرا " ومداخل في ضمنه من ثلاثة أوجه : وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد، ووجه هو فيه شبيه بالصفة .
فأحد وجهي كونه شبيها بالتأكيد، هو أنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا، وإذا كان كذلك كان إثبات كونه ملكا تحقيقا لا محالة، وتأكيدا لنفي أن يكون بشرا .
والوجه الثاني أن الجاري في العرف والعادة أنه إذا قيل : ما هذا بشرا، وما هذا بآدمي " والحال حال تعظيم وتعجب مما يشاهد في الإنسان من حسن خلق أو خلق- أن يكون الغرض والمراد من الكلام أن يقال إنه ملك،
[ ص: 230 ] وأنه يكنى به عن ذلك حتى إنه يكون مفهوم اللفظ . وإذا كان مفهوما من اللفظ قبل أن يذكر، كان ذكره إذا ذكر تأكيدا لا محالة لأن حد التأكيد أن تحقق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك . أفلا ترى أنه إنما كان " كلهم " في قولك : " جاءني القوم كلهم " تأكيدا من حيث كان الذي فهم منه، وهو الشمول، قد فهم بديئا من ظاهر لفظ " القوم " . ولو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ " القوم " ولا كان هو من موجبه، لم يكن " كل " تأكيدا، ولكان الشمول مستفادا من " كل " ابتداء.
وأما الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة، فهو أنه إذا نفي أن يكون بشرا، فقد أثبت له جنس سواه، إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر، ثم لا يدخل في جنس آخر، وإذا كان الأمر كذلك كان إثباته ملكا تبيينا وتعيينا لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه، وإغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول : " فإن لم يكن بشرا فما هو؟ وما جنسه؟ كما أنك إذا قلت : " مررت بزيد الظريف " كان الظريف تبيينا وتعيينا للذي أردت من بين من له هذا الاسم، وكنت قد أغنيت المخاطب عن الحاجة إلى أن يقول : " أي الزيدين أردت ؟ "