العود إلى
القول في " إنما " وما يقع فيه الاختصاص بعدها
404- وإذا استبنت هذه الجملة عرفت منها أن الذي صنعه
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق في قوله :
وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
[ ص: 341 ]
شيء لو لم يصنعه لم يصح له المعنى . ذاك لأن غرضه أن يخص
[ ص: 342 ] المدافع لا المدافع عنه .
ولو قال: " إنما أدافع عن أحسابهم " لصار المعنى أنه يخص المدافع عنه ، وأنه يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم كما يكون إذا قال : " وما أدافع إلا عن أحسابهم " . وليس ذلك معناه إنما معناه أن يزعم أن المدافع هو لا غيره، فاعرف ذلك فإن الغلط كما أظن يدخل على كثير ممن تسمعهم يقولون : " إنه فصل الضمير للحمل على المعنى " . فيرى أنه لو لم يفصله لكان يكون معناه مثله الآن .
هذا ولا يجوز أن ينسب فيه إلى الضرورة، فيجعل مثلا نظير قول الآخر :
كأنا يوم قرى إنما نقتل إيانا !
لأنه ليس به ضرورة إلى ذلك، من حيث أن " أدافع " و " يدافع " واحد في الوزن فاعرف هذا أيضا .
[ ص: 343 ]
405- وجملة الأمر أن الواجب أن يكون اللفظ على وجه يجعل الاختصاص فيه
nindex.php?page=showalam&ids=14899للفرزدق ، وذلك لا يكون إلا بأن يقدم " الأحساب " على ضميره وهو لو قال : وإنما أدافع عن أحسابهم استكن ضميره في الفعل فلم يتصور تقديم " الأحساب " عليه ولم يقع " الأحساب " إلا مؤخرا عن ضمير
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق . وإذا تأخرت انصرف الاختصاص إليها لا محالة .
فإن قلت : إنه كان يمكنه أن يقول : " وإنما أدافع عن أحسابهم أنا " فيقدم " الأحساب " على " أنا " .
قيل: إنه إذا قال : " أدافع " كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل، وكان " أنا " الظاهر تأكيدا له أعني للمستكن . والحكم يتعلق بالمؤكد دون التأكيد لأن التأكيد كالتكرير فهو يجيء من بعد نفوذ الحكم، ولا يكون تقديم الجار مع المجرور الذي هو قوله " عن أحسابهم " على الضمير الذي هو تأكيد تقديما له على الفاعل، لأن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل . ولا يكون لك إذا قلت : " وإنما أدافع عن أحسابهم " سبيل إلى أن تذكر المفعول قبل أن تذكر الفاعل، لأن ذكر الفاعل
[ ص: 344 ] هاهنا هو ذكر الفعل، من حيث إن الفاعل مستكن في الفعل، فكيف يتصور تقديم شيء عليه فاعرفه .
الاختصاص يقع في الذي بعد " إلا " من فاعل أو مفعول، أو جار ومجرور يكون بدل أحد المفعولين .
406- واعلم أنك إن عمدت إلى الفاعل والمفعول فأخرتهما جميعا إلى ما بعد " إلا " فإن الاختصاص يقع حينئذ في الذي يلي " إلا " منهما . فإذا قلت : " ما ضرب إلا عمرو زيدا " كان الاختصاص في الفاعل وكان المعنى أنك قلت : " إن الضارب عمرو لا غيره " . وإن قلت : " ما ضرب إلا زيدا عمرو " كان الاختصاص في المفعول، وكان المعنى أنك قلت : " إن المضروب زيد لا من سواه " .
وحكم المفعولين حكم الفاعل والمفعول فيما ذكرت لك . تقول : " لم يكس إلا زيدا جبة " . فيكون المعنى أنه خص " زيدا " من بين الناس بكسوة الجبة، فإن قلت : “ لم يكس إلا جبة زيدا " كان المعنى أنه خص الجبة من أصناف الكسوة .
وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جار ومجرور، كقول
السيد الحميري :
لو خير المنبر فرسانه ما اختار إلا منكم فارسا
[ ص: 345 ]
الاختصاص في " منكم " دون " فارسا " . ولو قلت : “ ما اختار إلا فارسا منكم " صار الاختصاص في " فارسا " .
حكم المبتدأ والخبر إذا جاء بعد " إنما "
407- واعلم أن الأمر في المبتدأ والخبر إن كانا بعد " إنما " على العبرة التي ذكرت لك في الفاعل والمفعول، إذا أنت قدمت أحدهما على الآخر .
معنى ذلك: أنك إن تركت الخبر في موضعه فلم تقدمه على المبتدأ، كان الاختصاص فيه . وإن قدمته على المبتدأ صار الاختصاص الذي كان فيه في المبتدأ .
تفسير هذا أنك تقول : " إنما هذا لك " . فيكون الاختصاص في " لك " بدلالة أنك تقول : " إنما هذا لك لا لغيرك " . وتقول : " إنما لك هذا " . فيكون الاختصاص في " هذا " بدلالة أنك تقول : " إنما لك هذا لا ذاك " : والاختصاص يكون أبدا في الذي إذا جئت " بلا " العاطفة كان العطف عليه .
وإن أردت أن يزداد ذلك عندك وضوحا فانظر إلى قوله تعالى : «
فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب » [ سورة الرعد : 40 ] وقوله عز وعلا : «
إنما السبيل على الذين يستأذنونك » [ سورة التوبة : 93 ] . فإنك ترى الأمر ظاهرا أن الاختصاص في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو " البلاغ " و " الحساب " دون الخبر الذي هو " عليك " و " علينا " وأنه في الآية الثانية في الخبر الذي هو " على الذين " دون المبتدأ الذي هو " السبيل " .