غريب اللغة ليس له مكان في الإعجاز
468- ثم إنه لو كان أكثر ألفاظ القرآن غريبا لكان محالا أن يدخل ذلك في الإعجاز، وأن يصح التحدي به . ذاك لأنه لا يخلو إذا وقع التحدي به من أن يتحدى من له علم بأمثاله من الغريب، أو من لا علم له بذلك .
فلو تحدي به من يعلم أمثاله، لم يتعذر عليه أن يعارضه بمثله . ألا ترى أنه لا يتعذر عليك إذا أنت عرفت ما جاء من الغريب في معنى أن تعارض من يقول " الشوقب " بأن تقول أنت : " الشوذب " . وإذا قال : " الأمق " أن تقول : " الأشق " ؟ وعلى هذا السبيل .
ولو تحدي به من لا علم له بأمثال ما فيه من الغريب، كان ذلك بمنزلة أن يتحدى العرب إلى أن يتكلموا بلسان الترك .
469- هذا، وكيف بأن يدخل الغريب في باب الفضيلة وقد ثبت عنهم أنهم كانوا يرون الفضيلة في ترك استعماله وتجنبه ؟ أفلا ترى إلى قول
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر [ ص: 398 ] رضي الله عنه في
زهير : إنه كان لا يعاظل بين القول، ولا يتتبع حوشي الكلام ؟ فقرن تتبع الحوشي وهو الغريب من غير شبهة إلى المعاظلة التي هي التعقيد .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13974الجاحظ في كتاب " البيان والتبيين " : ورأيت الناس يتداولون رسالة
nindex.php?page=showalam&ids=17344يحيى بن يعمر على لسان
nindex.php?page=showalam&ids=17357يزيد بن المهلب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=14078الحجاج : " إنا لقينا العدو فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة بعراعر الأودية وأهضام الغيطان، وبتنا بعرعرة الجبل وبات العدو بحضيضه " . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14078الحجاج : ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام . فقيل له: إن
nindex.php?page=showalam&ids=17344يحيى بن يعمر معه! فأمر بأن يحمل إليه، فلما أتاه قال : أين ولدت؟ فقال : بالأهواز : فقال : فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال : أخذتها عن أبي .
قال : ورأيتهم يديرون في كتبهم: أن امرأة خاصمت زوجها إلى
nindex.php?page=showalam&ids=17344يحيى بن يعمر فانتهرها مرارا . فقال له
يحيى : إن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها.
[ ص: 399 ] ثم قال : وإن كانوا إنما قد رووا هذا الكلام لكي يدل على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة .
أصل
فساد مقالة المعتزلة في ظنهم أن أوصاف اللفظ أوصاف له في نفسه
470 - واعلم أنك كلما نظرت وجدت سبب الفساد واحدا، وهو ظنهم الذي ظنوه في " اللفظ " وجعلهم الأوصاف التي تجري عليه كلها أوصافا له في نفسه، ومن حيث هو لفظ . وتركهم أن يميزوا بين ما كان وصفا له في نفسه، وبين ما كانوا قد أكسبوه إياه من أجل أمر عرض في معناه . ولما كان هذا دأبهم ثم رأوا الناس وأظهر شيء عندهم في معنى الفصاحة : تقويم الإعراب والتحفظ من اللحن لم يشكوا أنه ينبغي أن يعتد به في جملة المزايا التي يفاضل بها بين كلام وكلام في الفصاحة ، وذهب عنهم أن ليس هو من الفصاحة التي يعنينا أمرها في شيء . وإن كلامنا في فصاحة تجب للفظ لا من أجل شيء يدخل في النطق، ولكن من أجل لطائف تدرك بالفهم . وأنا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر، من بعد أن يكونا قد برئا من اللحن، وسلما في ألفاظهما من الخطأ .
ومن العجب أنا إذا نظرنا في الإعراب وجدنا التفاضل فيه محالا، لأنه لا يتصور أن يكون للرفع والنصب في كلام، مزية عليهما في كلام آخر، وإنما الذي يتصور أن يكون هاهنا كلامان قد وقع في إعرابهما خلل، ثم كان أحدهما أكثر صوابا من الآخر . وكلامان قد استمر أحدهما على
[ ص: 400 ] الصواب ولم يستمر الآخر . ولا يكون هذا تفاضلا في الإعراب، ولكن تركا له في شيء، واستعمالا له في آخر، فاعرف ذلك .
472- وجملة الأمر أنك لا ترى ظنا هو أنأى بصاحبه عن أن يصح له كلام أو يستمر له نظام، أو تثبت له قدم، أو ينطق منه إلا بالمحال فم، من ظنهم هذا الذي حام بهم حول " اللفظ " وجعلهم لا يعدونه، ولا يرون للمزية مكانا دونه .
قوله: " إن الفصاحة تكون في المعنى " ورد شبهة
المعتزلة وغيرهم في فهم ذلك
473- واعلم أنه قد يجري في العبارة منا شيء، هو يعيد الشبهة جذعة عليهم، وهو أنه يقع في كلامنا أن " الفصاحة " تكون في المعنى دون اللفظ " فإذا سمعوا ذلك قالوا: كيف يكون هذا، ونحن نراها لا تصلح صفة إلا للفظ، ونراها لا تدخل في صفة المعنى البتة، لأنا نرى الناس قاطبة يقولون : هذا لفظ فصيح وهذه ألفاظ فصيحة . ولا نرى عاقلا يقول : هذا معنى فصيح وهذه معان فصاح . ولو كانت الفصاحة تكون في المعنى لكان ينبغي أن يقال ذاك . كما أنا لما كان الحسن يكون فيه قيل : " هذا معنى حسن وهذه معان حسنة " . وهذا شيء يأخذ من الغر مأخذا : والجواب عنه أن يقال : إن غرضنا من قولنا : “ إن الفصاحة تكون في المعنى " أن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه " فصيح " هي في المعنى دون اللفظ، لأنه لو كانت بها المزية التي
[ ص: 401 ] من أجلها يستحق اللفظ الوصف بأنه فصيح، تكون فيه دون معناه ، لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة: " إنها فصيحة " أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها بكل حال . ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك فإنا نرى اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير . وإنما كان كذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح مزية تحدث من بعد أن لا تكون، وتظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم . وهذا شيء إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها أفرادا لم ترم فيها نظما، ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا .
وإذا كان كذلك وجب أن يعلم قطعا وضرورة أن تلك المزية في المعنى دون اللفظ .
474- وعبارة أخرى في هذا بعينه وهي أن يقال : قد علمنا علما لا تعترض معه شبهة ، أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم دون واضع اللغة . وإذا كان كذلك فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم ، هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئا ليس هو له في اللغة، حتى يجعل ذلك من صنيعه مزية يعبر عنها بالفصاحة، وإذا نظرنا وجدناه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئا أصلا، ولا أن يحدث فيه وصفا . كيف؟ وهو إن فعل
[ ص: 402 ] ذلك أفسد على نفسه وأبطل أن يكون متكلما ، لأنه لا يكون متكلما حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت عليه .
وإذا ثبت من حاله أنه لا يستطيع أن يصنع بالألفاظ شيئا ليس هو لها في اللغة . وكنا قد اجتمعنا على أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم البتة- وجب أن نعلم قطعا وضرورة أنهم وإن كانوا قد جعلوا " الفصاحة " في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ فإنهم لم يجعلوها وصفا له في نفسه ومن حيث هو صدى صوت ، ونطق لسان، ولكنهم جعلوها عبارة عن مزية أفادها المتكلم في المعنى لأنه إذا كان اتفاقا أنها عبارة عن مزية أفادها المتكلم ولم نره أفاد في اللفظ شيئا، لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزية أفادها في المعنى .
فصاحة اللفظ لا تكون مقطوعة بل موصولة بغيرها مما يليها
475- وجملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها ومعلقا معناها بمعنى ما يليها . فإذا قلنا في لفظة " اشتعل " من قوله تعالى : «
واشتعل الرأس شيبا » [ سورة مريم : 4 ] : أنها في أعلى رتبة من الفصاحة لم توجب تلك
[ ص: 403 ] الفصاحة لها وحدها ولكن موصولا بها الرأس معرفا بالألف واللام ومقرونا إليهما " الشيب " منكرا منصوبا .
476- هذا وإنما يقع ذلك في الوهم لمن يقع له- أعني أن يوجب الفصاحة للفظة وحدها فيما كان " استعارة " . فأما ما خلا من الاستعارة من الكلام الفصيح البليغ فلا يعرض توهم ذلك فيه لعاقل أصلا .
أفلا ترى أنه لا يقع في نفس من يعقل أدنى شيء إذا هو نظر إلى قوله عز وجل : «
يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم » [ سورة المنافقون : 4 ] . وإلى إكبار الناس شأن هذه الآية في الفصاحة، أن يضع يده على كلمة كلمة منها فيقول : " إنها فصيحة؟ " كيف ؟ وسبب الفصاحة فيها أمور لا يشك عاقل في أنها معنوية :
أولها : أن كانت " على " فيها متعلقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني .
والثاني : أن كانت الجملة التي هي " هم العدو " بعدها عارية من حرف عطف .
والثالث : التعريف في العدو وأن لم يقل : " هم عدو " .
ولو أنك علقت " على " بظاهر وأدخلت على الجملة التي هي " هم العدو " حرف عطف وأسقطت الألف واللام من " العدو " فقلت : " يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وهم عدو " لرأيت الفصاحة قد ذهبت
[ ص: 404 ] عنها بأسرها . ولو أنك أخطرت ببالك أن يكون " عليهم " متعلقا بنفس " الصيحة " ويكون حاله معها كحاله إذا قلت : “ صحت عليه " لأخرجته عن أن يكون كلاما فضلا عن أن يكون فصيحا . وهذا هو الفيصل لمن عقل .