مسألة " اللفظ " وغلبتها على المعتزلة وغيرهم
541- فإن أردت الصدق فإنك لا ترى في الدنيا شأنا أعجب من شأن الناس مع اللفظ ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم فيها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في " اللفظ " . فقد بلغ من ملكته لهم وقوته عليهم، أن تركهم وكأنهم إذا نوظروا فيه أخذوا عن أنفسهم، وغيبوا عن عقولهم، وحيل بينهم وبين أن يكون لهم فيما يسمعونه نظر، ويرى لهم إيراد في الإصغاء وصدر . فلست ترى إلا نفوسا قد جعلت ترك النظر دأبها، ووصلت بالهوينا أسبابها . فهي تغتر بالأضاليل وتتباعد عن التحصيل، وتلقي بأيديها إلى الشبه وتسرع إلى القول المموه .
542- ولقد بلغ من قلة نظرهم أن قوما منهم لما رأوا الكتب المصنفة في اللغة قد شاع فيها أن توصف الألفاظ المفردة بالفصاحة، ورأوا
أبا العباس ثعلبا قد سمى كتابه " الفصيح " مع أنه لم يذكر فيه إلا اللغة والألفاظ المفردة . وكان محالا إذا قيل : إن " الشمع " بفتح الميم أفصح من " الشمع " بإسكانه أن يكون ذلك من أجل المعنى، إذ ليس تفيد الفتحة في الميم شيئا في الذي سمي به . سبق إلى قلوبهم أن حكم الوصف بالفصاحة أينما كان وفي أي شيء كان أن لا يكون له مرجع إلى المعنى البتة، وأن يكون وصفا للفظ في نفسه، ومن حيث هو لفظ ونطق لسان . ولم يعلموا أن المعنى في وصف الألفاظ المفردة بالفصاحة، أنها في اللغة أثبت، وفي استعمال الفصحاء أكثر
[ ص: 459 ] أو أنها أجرى على مقاييس اللغة والقوانين التي وضعوها، وأن الذي هو معنى " الفصاحة " في أصل اللغة، هو الإبانة عن المعنى، بدلالة قولهم : " فصيح "
و " أعجم " وقولهم : " أفصح الأعجمي " و " فصح اللحان " و " أفصح الرجل بكذا " : إذا صرح به . وأنه لو كان وصفهم الكلمات المفردة بالفصاحة من أجل وصف هو لها من حيث هي ألفاظ ونطق لسان لوجب إذا وجدت كلمة يقال : إنها كلمة فصيحة على صفة في اللفظ، أن لا توجد كلمة على تلك الصفة، إلا وجب لها أن تكون فصيحة، وحتى يجب إذا كانت " فقهت الحديث " بالكسر أفصح منه بالفتح، أن يكون سبيل كل فعل مثله في الزنة أن يكون الكسر فيه أفصح من الفتح .
ثم إن فيما أودعه ثعلب كتابه ما هو أفصح من أجل أن لم يكن فيه حرف كان فيما جعله أفصح منه ، مثل أن " وقفت " أفصح من " أوقفت " أفترى أنه حدث في " الواو " و " القاف " و " الفاء " بأن لم يكن معها الهمزة، فضيلة وجب لها أن تكون أفصح وكفى برأي هذا مؤداه تهافتا وخطلا .
وجملة الأمر أنه لا بد لقولنا : " الفصاحة " من معنى يعرف، فإن كان ذلك المعنى وصفا في ألفاظ الكلمات المفردة، فينبغي أن يشار لنا إليه، وتوضع اليد عليه .
[ ص: 460 ]
" الاستعارة " تكون في معنى " اللفظ "
ومن أبين ما يدل على قلة نظرهم أنه لا شبهة على من نظر في كتاب تذكر فيه " الفصاحة " أن الاستعارة عنوان ما يجعل به " اللفظ " فصيحا ، وأن " المجاز " جملته و " الإيجاز " من معظم ما يوجب للفظ الفصاحة . وأنت تراهم يذكرون ذلك ويعتمدونه . ثم يذهب عنهم أن إيجابهم " الفصاحة " للفظ بهذه المعاني، اعتراف بصحة ما نحن ندعوهم إلى القول به، من أنه يكون فصيحا لمعناه .
أما " الاستعارة " فإنهم إن أغفلوا فيها الذي قلناه من أن المستعار بالحقيقة يكون معنى " اللفظ " واللفظ تبع من حيث إنا لا نقول : " رأيت أسدا " ونحن نعني رجلا إلا على أنا ندعي أنا رأينا أسدا بالحقيقة من حيث نجعله لا يتميز عن الأسد في بأسه وبطشه وجرأة قلبه . فإنهم على كل حال لا يستطيعون أن يجعلوا " الاستعارة " وصفا للفظ من حيث هو لفظ مع أن اعتقادهم أنك إذا قلت : “ رأيت أسدا " كنت نقلت اسم " الأسد " إلى " الرجل " أو جعلته هكذا غفلا ساذجا في معنى شجاع . أفترى أن لفظ الأسد لما نقل عن السبع إلى الرجل المشبه به، أحدث هذا النقل في أجراس حروفه ومذاقتها وصفا صار بذلك الوصف فصيحا؟
544- ثم إن من " الاستعارة " قبيلا لا يصح أن يكون المستعار فيه " اللفظ " البتة ، ولا يصح أن تقع الاستعارة فيه إلا على المعنى وذلك ما كان مثل اليد في قول
لبيد :
وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
[ ص: 461 ]
ذاك أنه ليس هاهنا شيء يزعم أنه شبهه باليد، حتى يكون لفظ اليد مستعارا له . وكذلك ليس فيه شيء يتوهم أن يكون قد شبهه بالزمام، وإنما المعنى على أنه شبه " الشمال " في تصريفها " الغداة " على طبيعتها بالإنسان يكون زمام البعير في يده ، فهو يصرفه على إرادته . ولما أراد ذلك جعل للشمال يدا وعلى الغداة زماما . وقد شرحت هذا قبل شرحا شافيا .
وليس هذا الضرب من الاستعارة بدون الضرب الأول في إيجاب وصف " الفصاحة " للكلام ، لا بل هو أقوى منه في اقتضائها . والمحاسن التي تظهر به والصور التي تحدث للمعاني بسببه، آنق وأعجب . وإن أردت أن تزداد علما بالذي ذكرت لك من أمره فانظر إلى قوله :
سقته كف الليل أكواس الكرى
وذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبه شيئا بالكف ولا أراد ذلك في " الأكواس " . ولكن لما كان يقال : " سكر الكرى " و " سكر النوم " استعار للكرى " الأكواس " كما استعار الآخر " الكاس " في قوله :
وقد سقى القوم كأس النعسة السهر
ثم إنه لما كان الكرى يكون في الليل جعل الليل ساقيا . ولما جعله ساقيا جعل له كفا، إذ كان الساقي يناول الكأس بالكف .
[ ص: 462 ]
546- ومن اللطيف النادر في ذلك ما تراه في آخر هذه الأبيات وهي
للحكم بن قنبر .
ولولا اعتصامي بالمنى كلما بدا لي اليأس منها لم يقم بالهوى صبري
ولولا انتظاري كل يوم جدى غد لراح بنعشي الدافنون إلى قبري
وقد رابني وهن المنى وانقباضها وبسط جديد اليأس كفيه في صدري
ليس المعنى على أنه استعار لفظ " الكفين " لشيء ولكن على أنه أراد أن يصف اليأس بأنه قد غلب على نفسه، وتمكن في صدره . ولما أراد ذلك وصفه بما يصفون به الرجل بفضل القدرة على الشيء، وبأنه ممكن منه، وأن يفعل فيه كل ما يريد كقولهم : " قد بسط يديه في المال ينفقه ويصنع فيه ما يشاء " . و " قد بسط العامل يده في الناحية وفي ظلم الناس " فليس لك إلا أن تقول إنه لما أراد ذلك جعل لليأس " كفين " واستعارهما له، فأما أن توقع الاستعارة فيه على " اللفظ " فما لا تخفى استحالته على عاقل .
المجاز كالاستعارة إلا أنه أعم
547- والقول في " المجاز " هو القول في " الاستعارة " لأنه ليس هو بشيء غيرها . وإنما الفرق أن " المجاز " أعم من حيث أن كل استعارة مجاز، وليس كل مجاز استعارة .
وإذا نظرنا من " المجاز " فيما لا يطلق عليه أنه " استعارة " ازداد خطأ
[ ص: 463 ] القوم قبحا وشناعة، وذلك أنه يلزم على قياس قولهم أن يكون إنما كان قوله تعالى : «
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا » [ سورة يونس : 67 ] أفصح من أصله الذي هو قولنا : " والنهار لتبصروا أنتم فيه أو مبصرا أنتم فيه " من أجل أنه حدث في حروف " مبصر " - بأن جعل الفعل للنهار على سعة الكلام - وصف لم يكن . وكذلك يلزم أن يكون السبب في أن كان قول الشاعر :
فنام ليلي وتجلى همي
أفصح من قولنا : “ فنمت في ليلي . أن كسب هذا المجاز لفظ " نام " ولفظ " الليل " مذاقة لم تكن لهما . وهذا مما ينبغي للعاقل أن يستحي منه، وأن يأنف من أن يهمل النظر إهمالا يؤديه إلى مثله . ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق .