[ ص: 525 ] الخبر وما يتحقق به الإسناد بسم الله الرحمن الرحيم
" النظم " هو توخي معاني النحو وهو معدن البلاغة
613- ما أظن بك أيها القارئ لكتابنا إن كنت وفيته حقه من النظر وتدبرته حق التدبر، إلا أنك قد علمت علما أبى أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب أن ليس النظم شيئا إلا توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم - وأنك قد تبينت أنه إذا رفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل خرجت الكلم المنطوق ببعضها في إثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتض، وعن أن يتصور أن يقال في كلمة منها إنها مرتبطة بصاحبة لها، ومتعلقة بها وكائنة بسبب منها، وأن حسن تصورك لذلك قد ثبت فيه قدمك، وملأ من الثقة نفسك وباعدك من أن تحن إلى الذي كنت عليه، وأن يجرك الإلف والاعتياد إليه- وأنك جعلت ما قلناه نقشا في صدرك وأثبته في سويداء قلبك، وصادقت بينه وبين نفسك . فإن كان الأمر كما ظنناه رجونا أن يصادف الذي نريد أن نستأنفه بعون الله تعالى منك نية حسنة تقيك الملل، ورغبة صادقة تدفع
[ ص: 526 ] عنك السأم وأريحية يخف معها عليك تعب الفكر وكد النظر . والله تعالى ولي توفيقك وتوفيقنا بمنه وفضله . ونبدأ فنقول :
614- فإذا ثبت الآن أن لا شك ولا مرية في أن ليس " النظم " شيئا غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن، إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنها معدنه ومعانه وموضعه ومكانه وأنه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجه لطلبه فيما عداها، غار نفسه بالكاذب من الطمع ومسلم لها إلى الخدع، وأنه إن أبى أن يكون فيها، كان قد أبى أن يكون القرآن معجزا بنظمه ولزمه أن يثبت شيئا آخر يكون معجزا به، وأن يلحق بأصحاب الصرفة ، فيدفع الإعجاز من أصله . وهذا تقرير لا يدفعه إلا معاند يعد الرجوع عن باطل قد اعتقده عجزا والثبات عليه من بعد لزوم الحجة جلدا، ومن وضع نفسه في هذه المنزلة كان قد باعدها من الإنسانية . ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق .
الخبر أصل في معاني الكلام في النفي والإثبات
615- وهذه أصول يحتاج إلى معرفتها قبل الذي عمدنا له .
615- اعلم أن معاني الكلام كلها معان لا تتصور إلا فيما بين شيئين . والأصل
[ ص: 527 ] والأول هو " الخبر " . وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع . ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه؛ لأنه ينقسم إلى " إثبات " و " نفي " . و " الإثبات " يقتضي مثبتا ومثبتا له . و " النفي " يقتضي منفيا ومنفيا عنه . فلو حاولت أن تتصور إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه، حاولت ما لا يصح في عقل ولا يقع في وهم . ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء مظهر أو مقدر . وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوتا تصوته سواء .
616- وإن أردت أن تستحكم معرفة ذلك في نفسك فانظر إليك إذا قيل لك : ما فعل زيد؟ فقلت : “ خرج . هل يتصور أن يقع في خلدك من " خرج " معنى من دون أن ينوى فيه ضمير " زيد " ؟ وهل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلا مخرجا نفسك إلا الهذيان؟
وكذلك فانظر إذا قيل لك : كيف زيد؟ فقلت : “ صالح " هل يكون لقولك : " صالح " أثر في نفسك من دون أن تريد " هو صالح " أم هل يعقل السامع منه شيئا إن هو لم يعتقد ذلك فإنه مما لا يبقى معه لعاقل شك أن الخبر معنى لا يتصور إلا بين شيئين، يكون أحدهما مثبتا والآخر مثبتا له، أو يكون أحدهما منفيا والآخر منفيا عنه، وأنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له، ومنفي من دون منفي عنه .
[ ص: 528 ] ولما كان الأمر كذلك أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل واسم كقولنا : " خرج زيد " أو اسم واسم كقولنا : " زيد منطلق " . فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل وبغير هذا الدليل . وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمة وحكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة .
لا بد للخبر من مخبر به يوصف هو بالصدق والكذب
617- وإذ قد عرفت أنه لا يتصور الخبر إلا فيما بين شيئين : مخبر به ومخبر عنه، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث . وذلك أنه كما لا يتصور أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه . كذلك لا يتصور أن يكون خبر حتى يكون له " مخبر " يصدر عنه ويحصل من جهته ويكون له نسبة إليه، وتعود التبعة فيه عليه . فيكون هو الموصوف بالصدق إن كان صدقا وبالكذب إن كان كذبا . أفلا ترى أن من المعلوم أنه لا يكون إثبات ونفي حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته ويكون هو المزجي لهما والمبرم والناقض فيهما ويكون بهما موافقا ومخالفا ومصيبا ومخطئا ومحسنا ومسيئا .
618- وجملة الأمر أن " الخبر " وجميع الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنها مقاصد وأغراض وأعظمها شأنا " الخبر " فهو الذي يتصور بالصور الكثيرة وتقع فيه الصناعات العجيبة . وفيه يكون في الأمر الأعم المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة كما شرحنا فيما تقدم ونشرحه فيما نقول من بعد إن شاء الله تعالى .
[ ص: 529 ]
619- واعلم أنك إذا فتشت أصحاب اللفظ عما في نفوسهم وجدتهم قد توهموا في الخبر أنه صفة للفظ وأن المعنى في كونه إثباتا أنه لفظ يدل على وجود المعنى من الشيء أو فيه، وفي كونه نفيا أنه لفظ يدل على عدمه وانتفائه عن الشيء . وهو شيء قد لزمهم وسرى في عروقهم وامتزج بطباعهم حتى صار الظن بأكثرهم أن القول لا ينجع فيهم .
بطلان دعوى أصحاب اللفظ في توهمهم أن الخبر صفة للفظ
620- والدليل على بطلان ما اعتقدوه أنه محال أن يكون اللفظ قد نصب دليلا على شيء، ثم لا يحصل منه العلم بذلك الشيء إذ لا معنى لكون الشيء دليلا إلا إفادته إياك العلم بما هو دليل عليه .
وإذا كان هذا كذلك، علم منه أن ليس الأمر على ما قالوه، من أن المعنى في وصفنا " اللفظ " بأنه خبر، أنه قد وضع لأن يدل على وجود المعنى أو عدمه؛ لأنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن لا يقع من سامع شك في خبر يسمعه وأن لا تسمع الرجل يثبت وينفي إلا علمت وجود ما أثبت وانتفاء ما نفي . وذلك مما لا يشك في بطلانه . وإذا لم يكن ذلك مما يشك في بطلانه وجب أن يعلم أن مدلول اللفظ ليس هو وجود المعنى أو عدمه ولكن الحكم بوجود المعنى أو عدمه، وأن ذلك أي الحكم بوجود المعنى أو عدمه حقيقة الخبر . إلا أنه إذا كان بوجود المعنى من الشيء أو فيه يسمى إثباتا . وإذا كان بعدم المعنى وانتفائه عن الشيء يسمى نفيا . ومن الدليل على فساد ما زعموه أنه لو كان معنى الإثبات الدلالة على وجود المعنى وإعلامه السامع أيضا لكان ينبغي إذا قال واحد : " زيد عالم " وقال آخر " زيد ليس بعالم " أن يكون قد دل هذا على وجود العلم وهذا على عدمه . وإذا قال الموحد : العالم محدث " وقال الملحد : " هو قديم " أن يكون قد دل الموحد على حدوثه والملحد على قدمه، وذلك ما لا يقوله عاقل .
[ ص: 530 ]
621- تقرير لذلك بعبارة أخرى :
لا يتصور أن تفتقر المعاني المدلول عليها بالجمل المؤلفة إلى دليل يدل عليها زائد على اللفظ . كيف؟ وقد أجمع العقلاء على أن العلم بمقاصد الناس في محاوراتهم علم ضرورة ، ومن ذهب مذهبا يقتضي أن لا يكون " الخبر " معنى في نفس المتكلم، ولكن يكون وصفا للفظ من أجل دلالته على وجود المعنى من الشيء أو فيه أو انتفاء وجوده عنه، كان قد نقض منه الأصل الذي قدمناه من حيث يكون قد جعل المعنى المدلول عليه باللفظ لا يعرف إلا بدليل سوى اللفظ، ذاك لأنا لا نعرف وجود المعنى المثبت وانتفاء المنفي باللفظ ، ولكنا نعلمه بدليل يقوم لنا زائد على اللفظ . وما من عاقل إلا وهو يعلم ببديهة النظر أن المعلوم بغير اللفظ لا يكون مدلول اللفظ .
طريقة أخرى : الدلالة على الشيء هي لا محالة إعلامك السامع إياه وليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولا عليه . وإذا كان كذلك وكان مما يعلم ببدائه المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره، ما هو؟ أهو أن يعلم السامع المخبر به من المخبر عنه، أم أن يعلمه إثبات المعنى المخبر به للمخبر عنه؟
فإن قيل : إن المقصود إعلامه السامع وجود المعنى من المخبر عنه . فإذا قال : " ضرب زيد " كان مقصوده أن يعلم السامع وجود الضرب من زيد، وليس الإثبات إلا إعلامه السامع وجود المعنى.
قيل له : فالكافر إذا أثبت مع الله - تعالى عما يقول الظالمون - إلها آخر
[ ص: 531 ] يكون قاصدا أن يعلم - نعوذ بالله تعالى - أن مع الله تعالى إلها آخر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وكفى بهذا فضيحة .
623- وجملة الأمر أنه ينبغي أن يقال لهم : أتشكون في أنه لا بد من أن يكون لخبر المخبر معنى يعلمه السامع علما لا يكون معه شك، ويكون ذلك معنى اللفظ وحقيقته؟
فإذا قالوا : لا نشك .
قيل لهم : فما ذلك المعنى؟
فإن قالوا : هو وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه إذا كان الخبر إثباتا، وانتفاؤه عنه إذا كان نفيا، لم يمكنهم أن يقولوا ذلك إلا من بعد أن يكابروا فيدعوا أنهم إذا سمعوا الرجل يقول : خرج زيد علموا علما لا شك معه وجود الخروج من زيد . وكيف يدعون ذلك وهو يقتضي أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبدا، وأن لا يجوز فيه أن يقع على خلاف المخبر عنه ، وأن يكون العقلاء قد غلطوا حين جعلوا من خاص وصفه أنه يحتمل الصدق والكذب، وأن يكون الذي قالوه في أخبار الآحاد وأخبار التواتر من أن العلم يقع بالتواتر دون دون الآحاد سهوا منهم . ويقتضي الغنى عن المعجزة لأنه إنما احتيج إليها ليحصل العلم بكون الخبر على وفق المخبر عنه ، فإذا كان لا يكون إلا على وفق المخبر عنه، لم تقع الحاجة إلى دليل يدل على كونه كذلك فاعرفه .
[ ص: 532 ]
624- واعلم أنه إنما لزمهم ما قلناه من أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبدا من حيث إنه إذا كان معنى الخبر عندهم إذا كان إثباتا، أنه لفظ موضوع ليدل على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه، وجب أن يكون كذلك أبدا، وأن لا يصح أن يقال : " ضرب زيد " إلا إذا كان الضرب قد وجد من زيد . وكذلك يجب في النفي أن لا يصح أن يقال : " ما ضرب زيد " إلا إذا كان الضرب لم يوجد منه لأن تجويز أن يقال : " ضرب زيد " من غير أن يكون قد كان منه ضرب، وأن يقال : " ما ضرب زيد " . وقد كان منه ضرب، يوجب على أصلهم إخلاء اللفظ من معناه الذي وضع ليدل عليه، وذلك ما لا يشك في فساده.
ولا يلزمنا ذلك على أصلنا لأن معنى " اللفظ " عندنا هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه، إذا كان الخبر إثباتا، والحكم بعدمه إذا كان نفيا . واللفظ عندنا لا ينفك من ذلك ولا يخلو منه . وذلك لأن قولنا : " ضرب " و " ما ضرب " يدل من قول الكاذب على نفس ما يدل عليه من قول الصادق . لأنا إن لم نقل ذلك، لم يخل من أن يزعم أن الكاذب يخلي اللفظ من المعنى، أو يزعم أنه يجعل للفظ معنى غير ما وضع له ، وكلاهما باطل .
625- ومعلوم أنه لا يزال يدور في كلام العقلاء في وصف الكاذب: " أنه يثبت ما ليس بثابت، وينفي ما ليس بمنتف " . والقول بما قالوه يؤدي إلى أن يكون العقلاء قد قالوا المحال، من حيث يجب على أصلهم أن يكونوا قد قالوا : إن الكاذب يدل على وجود ما ليس بموجود، وعلى عدم ما ليس بمعدوم، وكفى بهذا تهافتا وخطلا، ودخولا في اللغو من القول .
[ ص: 533 ] وإذا اعتبرنا أصلنا كان تفسيره أن الكاذب يحكم بالوجود فيما ليس بموجود وبالعدم فيما ليس بمعدوم . وهو أسد كلام وأحسنه .
626- والدليل على أن اللفظ من قول الكاذب يدل على نفس ما يدل عليه من قول الصادق أنهم جعلوا خاص وصف الخبر أنه يحتمل الصدق والكذب، فلولا أن حقيقته فيهما حقيقة واحدة، لما كان لحدهم هذا معنى . ولا يجوز أن يقال : إن الكاذب يأتي بالعبارة على خلاف المعبر عنه، لأن ذلك إنما يقال فيمن أراد شيئا، ثم أتى بلفظ لا يصلح للذي أراد . ولا يمكننا أن نزعم في الكاذب أنه أراد أمرا ثم أتى بعبارة لا تصلح لما أراد .
توهمهم أن " المفعول " زيادة في الفائدة والاحتجاج لبطلانه
627- ومما ينبغي أن يحصل في هذا الباب أنهم قد أصلوا في " المفعول " وكل ما زاد على جزئي الجملة أنه يكون زيادة في الفائدة . وقد يتخيل إلى من ينظر إلى ظاهر هذا من كلامهم أنهم أرادوا بذلك أنك تضم بما تزيده على جزئي الجملة فائدة أخرى وينبني عليه أن ينقطع عن الجملة، حتى يتصور أن يكون فائدة على حدة وهو ما لا يعقل إذ لا يتصور في زيد من قولك : " ضربت زيدا " أن يكون شيئا برأسه، حتى تكون بتعديتك " ضربت " إليه قد ضممت فائدة إلى أخرى . وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يعلم أن الحقيقة في هذا: أن الكلام يخرج بذكر " المفعول " إلى معنى غير الذي كان، وأن وزان الفعل قد عدي إلى مفعول معه، وقد أطلق فلم يقصد به إلى مفعول دون مفعول وزان الاسم المخصص بالصفة مع الاسم المتروك على شياعه كقولك : " جاءني رجل ظريف " مع قولك : " جاءني رجل " في أنك لست في ذلك كمن يضم معنى إلى معنى وفائدة إلى فائدة، ولكن كمن يريد هاهنا شيئا وهناك شيئا آخر . فإذا قلت : “ ضربت زيدا " كان المعنى غيره إذا قلت : " ضربت " ولم تزد " زيدا " .
[ ص: 534 ] وهكذا يكون الأمر أبدا، كلما زدت شيئا وجدت المعنى قد صار غير الذي كان . ومن أجل ذلك صلح المجازاة بالفعل الواحد، إذا أتى به مطلقا في الشرط ومعدى إلى شيء في الجزاء كقوله تعالى : «
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم » [ سورة الإسراء :7 ] وقوله عز وجل : «
وإذا بطشتم بطشتم جبارين » [ سورة الشعراء : 130 ] مع العلم بأن الشرط ينبغي أن يكون غير الجزاء من حيث كان الشرط سببا والجزاء مسببا، وأنه محال أن يكون الشيء سببا لنفسه . فلولا أن المعنى في " أحسنتم " الثانية غير المعنى في الأولى، وأنها في حكم فعل ثان لما ساغ ذلك . كما لا يسوغ أن تقول : " إن قمت قمت وإن خرجت خرجت " . ومثله من الكلام قوله : " المرء بأصغريه، إن قال قال ببيان، وإن صال صال بجنان " ويجري ذلك في الفعلين قد عديا جميعا إلا أن الثاني منهما قد تعدى إلى شيء زائد على ما تعدى إليه الأول . ومثاله قولك : " إن أتاك زيد أتاك لحاجة " . وهو أصل كبير، والأدلة على ذلك كثيرة ومن أولاها بأن يحفظ: أنك ترى البيت قد استحسنه الناس وقضوا لقائله بالفضل فيه وبأنه الذي غاص على معناه بفكره، وأنه
أبو عذره ثم لا ترى ذلك الحسن وتلك الغرابة كانا، إلا لما بناه على الجملة دون نفس الجملة . ومثال ذلك قول
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
وما حملت أم امرئ في ضلوعها أعق من الجاني عليها هجائيا
فلولا أن معنى الجملة يصير بالبناء عليها شيئا غير الذي كان، ويتغير في ذاته لكان محالا أن يكون البيت بحيث تراه من الحسن والمزية ، وأن يكون معناه
[ ص: 535 ] خاصا
nindex.php?page=showalam&ids=14899بالفرزدق، وأن يقضي له بالسبق إليه إذ ليس في الجملة التي بني عليها ما يوجب شيئا من ذلك، فاعرفه .
والنكتة التي يجب أن تراعى في هذا، أنه لا تتبين لك صورة المعنى الذي هو معنى
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق إلا عند آخر حرف من البيت . حتى إن قطعت عنه قوله : " هجائيا " بل الياء التي هي ضمير
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق لم يكن الذي تعقله منه مما أراده
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق بسبيل، لأن غرضه تهويل أمر هجائه والتحذير منه ، وأن من عرض أمه له، كان قد عرضها لأعظم ما يكون من الشر .
629- وكذلك حكم نظائره من الشعر، . فإذا نظرت إلى قول
القطامي :
فهن ينبذن من قول يصبن به مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وجدتك لا تحصل على معنى يصح أن يقال إنه غرض الشاعر ومعناه، إلا عند قوله : " ذي الغلة " .
630- ويزيدك استبصارا فيما قلناه أن تنظر فيما كان من الشعر جملا قد عطف بعضها على بعض بالواو كقوله :
النشر مسك والوجوه دنانير وأطراف الأكف عنم
وذلك أنك ترى الذي تعقله من قوله : " النشر مسك " لا يصير بانضمام قوله : " والوجوه دنانير " إليه شيئا غير الذي كان، بل تراه باقيا على حاله . كذلك ترى ما تعقل من قوله " والوجوه دنانير " لا يلحقه تغيير بانضمام قوله : " وأطراف الأكف عنم " إليه .
[ ص: 536 ]
631- وإذ قد عرفت ما قررناه من أن من شأن الجملة أن يصير معناها بالبناء عليها شيئا غير الذي كان، وأنه يتغير في ذاته فاعلم أن ما كان من الشعر مثل بيت
nindex.php?page=showalam&ids=15529بشار :
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وقول
امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
وقول
زياد :
وإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
كان له مزية على قول
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق فيما ذكرنا لأنك تجد في صدر بيت
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق جملة تؤدي معنى، وإن لم يكن معنى يصح أن يقال : " إنه معنى فلان " . ولا تجد في صدر هذه الأبيات ما يصح أن يعد جملة تؤدي معنى، فضلا عن أن تؤدي معنى يقال إنه معنى فلان . ذاك لأن قوله : " كأن مثار النقع . . إلى : وأسيافنا " جزء واحد و " ليل تهاوى كواكبه " بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام.
وهكذا سبيل البيتين الآخرين . فقوله : " كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها " جزء وقوله : " العناب والحشف البالي " الجزء الثاني . وقوله :
وإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا
جزء وقوله : " لكالبحر " الجزء الثاني . وقوله : " مهما تلق في البحر يغرق " وإن كان جملة مستأنفة ليس لها في الظاهر تعلق بقوله : " لكالبحر " فإنها لما كانت مبينة لحال هذا التشبيه صارت كأنها متعلقة بهذا التشبيه وجرى مجرى أن تقول : " لكالبحر في أنه لا يلقى فيه شيء إلا غرق " .