1. الرئيسية
  2. المحكم في نقط المصاحف
  3. باب ذكر المصاحف وكيف كانت عارية من النقط وخالية من الشكل ومن نقطها أولا من السلف والسبب في ذلك
صفحة جزء
[ ص: 2 ] باب

ذكر المصاحف ، وكيف كانت عارية من النقط ، وخالية من الشكل ، ومن نقطها أولا من السلف ، والسبب في ذلك

حدثنا فارس بن أحمد بن موسى المقرئ ، قال : ثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عثمان ، قال : حدثنا الفضل بن شاذان ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن موسى ، قال : أخبرنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : كان القرآن مجردا في المصاحف ، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الياء والتاء ، وقالوا : لا بأس به ، هو نور له . ثم أحدثوا فيها نقطا عند منتهى الآي ، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم .

حدثنا فارس بن أحمد ، قال : ثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أبو بكر الرازي ، قال : ثنا أبو العباس المقرئ ، قال : حدثنا أحمد بن يزيد ، قال : ثنا العباس بن الوليد ، قال : ثنا فديك - من أهل قيسارية - قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : سمعت قتادة يقول : بدؤوا فنقطوا ، ثم خمسوا ، ثم عشروا .

قال أبو عمرو : هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين - رضوان الله عليهم - هم المبتدئون بالنقط ، ورسم الخموس والعشور ؛ لأن حكاية قتادة لا تكون [ ص: 3 ] إلا عنهم ، إذ هو من التابعين . وقوله : " بدؤوا . . . " إلى آخره ؛ دليل على أن ذلك كان عن اتفاق من جماعتهم . وما اتفقوا عليه - أو أكثرهم - فلا شكول في صحته ، ولا حرج في استعماله . وإنما أخلى الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات ، والفسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها ، والقراءة بما شاءت منها . فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها وشكلها .

وذلك ما حدثناه محمد بن أحمد بن علي البغدادي ، قال : ثنا محمد بن القاسم الأنباري ، قال : ثنا أبي ، قال : حدثنا أبو عكرمة ، قال : قال العتبي : كتب معاوية - رضي الله عنه - إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه ، فلما قدم عليه كلمه ، فوجده يلحن ، فرده إلى زياد ، وكتب إليه كتابا يلومه فيه ، ويقول : أمثل عبيد الله يضيع ؟ ! فبعث زياد إلى أبي الأسود ، فقال : يا أبا الأسود ، إن هذه الحمراء قد كثرت ، وأفسدت من ألسن العرب ؛ فلو وضعت شيئا يصلح به الناس كلامهم ، ويعربون به كتاب الله تعالى ؟ فأبى ذلك أبو الأسود ، وكره إجابة زياد إلى ما سأل .

فوجه زياد رجلا ، فقال له : اقعد في طريق أبي الأسود ، فإذا مر بك ، فاقرأ شيئا من القرآن ، وتعمد اللحن فيه . ففعل ذلك . فلما مر به أبو الأسود ، رفع الرجل صوته ، فقال : أن الله بريء من المشركين ورسوله . فاستعظم ذلك أبو الأسود ، وقال : عز وجه الله أن يبرأ من رسوله . ثم رجع [ ص: 4 ] من فوره إلى زياد ، فقال : يا هذا ، قد أجبتك إلى ما سألت ، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن ، فابعث إلي ثلاثين رجلا . فأحضرهم زياد ، فاختار منهم أبو الأسود عشرة ، ثم لم يزل يختار منهم ، حتى اختار رجلا من عبد القيس ، فقال : خذ المصحف ، وصبغا يخالف لون المداد ، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف ، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف ، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله ، فإن أتبعت شيئا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين .

فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره ، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك .

[ ص: 5 ] أخبرنا يونس بن عبد الله ، قال : نا محمد بن يحيى ، قال : نا أحمد بن خالد ، قال : نا علي بن عبد العزيز ، قال : نا القاسم بن سلام ، قال : نا حجاج ، عن هارون ، عن محمد بن بشر ، عن يحيى بن يعمر ، وكان أول من نقط المصاحف .

أخبرنا عبد بن أحمد بن محمد في كتابه ، قال : نا أحمد بن عبدان ، قال : نا محمد بن سهل ، قال : نا محمد بن إسماعيل ، قال : قال حسين بن الوليد ، عن هارون بن موسى : أول من نقط المصحف يحيى بن يعمر .

أخبرنا خلف بن إبراهيم بن محمد المقرئ في الإجازة ، قال : نا محمد بن عبد الله [ ص: 6 ] الأصبهاني ، قال أخبرت عن أبي بكر محمد بن محمد بن الفضل التستري ، قال : نا محمد بن سهل بن عبد الجبار ، قال : نا أبو حاتم ، قال : قرأ يعقوب على سلام أبي المنذر ، وقرأ سلام على أبي عمرو ، وقرأ أبو عمرو على عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ، وعلى نصر بن عاصم الليثي ، ونصر أول من نقط المصاحف ، وعشرها ، وخمسها .

قال أبو عمرو : يحتمل أن يكون يحيى ونصر أول من نقطاها للناس بالبصرة ، وأخذا ذلك عن أبي الأسود ؛ إذ كان السابق إلى ذلك ، والمبتدئ به ، وهو الذي جعل الحركات والتنوين لا غير ، على ما تقدم في الخبر عنه . ثم جعل الخليل بن أحمد الهمز والتشديد والروم والإشمام . وقفا الناس في ذلك أثرهما ، واتبعوا فيه سنتهما . وانتشر ذلك في سائر البلدان ، وظهر العمل به في كل عصر وأوان ، والحمد لله على كل حال .

حدثنا محمد بن علي ، قال : نا ابن الأنباري ، قال : نا أبي ، عن عمر بن شبة ، عن الثوري ، قال : سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول : أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي ، ثم ميمون الأقرن ، ثم عنبسة الفيل ، ثم عبد الله بن أبي إسحاق .

قال أبو عمرو : وكل هؤلاء قد نقطوا ، وأخذ عنهم النقط ، وحفظ ، وضبط ، وقيد ، وعمل به ، واتبع فيه سنتهم ، واقتدي فيه بمذاهبهم .

قال محمد بن يزيد المبرد : لما وضع أبو الأسود الدؤلي النحو ، قال : ابغوا لي رجلا ، وليكن لقنا . فطلب الرجل ، فلم يوجد إلا في عبد القيس ، فقال أبو الأسود : إذا رأيتني لفظت بالحرف ، فضممت شفتي ، فاجعل أمام الحرف نقطة ؛ فإذا ضممت شفتي بغنة ، فاجعل نقطتين ؛ فإذا رأيتني قد كسرت شفتي [ ص: 7 ] فاجعل أسفل الحرف نقطة ؛ فإذا كسرت شفتي بغنة ، فاجعل نقطتين ؛ فإذا رأيت قد فتحت شفتي ، فاجعل على الحرف نقطة ؛ فإذا فتحت شفتي بغنة ، فاجعل نقطتين . قال أبو العباس : فلذلك النقط بالبصرة في عبد القيس إلى اليوم .

قال : وأخذ عن أبي الأسود ميمون الأقرن ، وأخذ عن ميمون الأقرن الخليل بن أحمد . وزاد الخليل في ذلك ، فجعل على الحرف المشدد ثلاث شبهات ( ) ، وأخذه من أول شديد . فإذا كان خفيفا جعل عليه خاء ( خ ) ، وأخذه من أول خفيف .

وقال أبو الحسن بن كيسان : قال محمد بن يزيد : الشكل الذي في الكتب من عمل الخليل ، وهو مأخوذ من صور الحروف ؛ فالضمة واو صغيرة الصورة في أعلى الحرف ؛ لئلا تلتبس بالواو المكتوبة ، والكسرة ياء تحت الحرف ، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف .

وقال أبو حاتم سهل بن محمد : أصل النقط لعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ، معلم أبي عمرو بن العلاء ، أخذه الناس عنه . قال : ويقال : أول من نقط المصاحف نصر بن عاصم الليثي . قال : والنقط لأهل البصرة ، أخذه الناس كلهم عنهم ، حتى أهل المدينة . وكانوا ينقطون على غير هذا النقط ، فتركوه ونقطوا نقط أهل البصرة .

قال أبو عمرو : هذا الذي قاله أبو حاتم ، من أن أهل المدينة أخذوا النقط عن أهل البصرة ، صحيح . وذلك أن أحمد بن عمر القاضي حدثنا قال : ثنا محمد [ ص: 8 ] ابن أحمد بن منير ، قال : حدثنا عبد الله بن عيسى ، قال : ثنا قالون قال : في مصاحف المدينة بالسوء إلا بهمزتين في الكتاب . يعني نقطها . ألا ترى أن أهل المدينة لا يجمعون بين همزتين ، بل قد كان بعضهم - وهو أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ - يسهلهما معا . وهي لغة قريش . فدل ما استعملوه في نقط مصاحفهم من تحقيقهما وإثباتهما معا بالصفرة التي جعلوها لنقط الهمز المحقق ، خلافا لقراءة أئمتهم ومذهب سلفهم ، على أنهم أخذوا ذلك عن غيرهم ، وأنهم اتبعوا في ذلك أهل البصرة ، إذ كانوا المبتدئين بالنقط ، والسابقين إليه ، كما تقدم ذلك في الأخبار الواردة عن السلف .

ثم أخذ ذلك عن أهل المدينة عامة أهل المغرب من الأندلسيين وغيرهم ، ونقطوا به مصاحفهم ، وجمعوا بين الهمزتين ، وضموا ميمات الجمع . قال قالون : أهل المدينة يشكلون مصاحفهم برفع الميمات كلها ، وجعلوا النبرات بالصفرة ، والحركات نقطا بالحمرة ، ولم يخالفوهم في شيء جرى استعمالهم عليه من ذلك ومن غيره .

وقد تأملت مصاحفنا القديمة التي كتبت في زمان الغازي بن قيس صاحب نافع بن أبي نعيم ، وراوية مالك بن أنس ، فوجدت جميع ذلك مثبتا فيها ، مقيدا على حسب ما أثبت ، وهيئة ما يقيد في مصاحف أهل المدينة . وكذلك رأيت ذلك في سائر المصاحف العراقية والشامية . ونقاطهم على ذلك إلى اليوم ، وكذلك نقاط أهل مكة ، على أن سلفهم كانوا على غير ذلك . قال ابن أشته : [ ص: 9 ] رأيت في مصحف إسماعيل القسط ، إمام أهل مكة - الضمة فوق الحرف ، والفتحة قدام الحرف ، ضد ما عليه الناس .

قال أبو عمرو : وأول من صنف النقط ، ورسمه في كتاب ، وذكر علله الخليل بن أحمد ، ثم صنف ذلك بعده جماعة من النحويين والمقرئين ، وسلكوا فيه طريقه ، واتبعوا سنته ، واقتدوا بمذاهبه ، منهم : أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي ، وابنه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أبي محمد ، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني ، وأبو عبد الله محمد بن عيسى الأصبهاني ، وأبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي ، وأبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد ، وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أشته ، وأبو الحسن علي بن محمد بن بشر مقرئ أهل بلدنا ، وجماعة غيره غير هؤلاء .

وممن اشتهر من المتقدمين بالنقط ، واقتدي به فيه من المدنيين : عيسى بن مينا قالون ، راوية نافع ، ومقرئ أهل المدينة . ومن البصريين : بشار بن أيوب أستاذ يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، ومعلى بن عيسى صاحب الجحدري . ومن الكوفيين : صالح بن عاصم الناقط صاحب الكسائي . ومن الأندلسيين : حكيم بن عمران صاحب الغازي بن قيس . وسنأتي بجميع ما روي لنا من اتفاقهم واختلافهم بعلله ومعانيه في مواضعه ، إن شاء الله ، وبالله التوفيق ، وعليه التكلان .

التالي السابق


الخدمات العلمية