78 - باب خاتمة الشاطبية
1 - وقد وفق الله الكريم بمنه لإكمالها حسناء ميمونة الجلا 2 - وأبياتها ألف تزيد ثلاثة
ومع مائة سبعين زهرا وكملا
(ميمونة) من اليمن وهو البركة، و(الجلاء) بكسر الجيم والمد وقصر للضرورة البروز، و(زهرا) جمع زهراء بمعنى مضيئة، و(كملا) جمع كامل.
المعنى: وفق الله المتفضل على عباده بأنواع المنح وأصناف المنن ناظم هذه القصيدة لإتمامها حال كونها حسنة اللفظ بديعة النسج مباركة البروز ميمونة الطلعة بما اشتملت عليه من المعاني السامية والمقاصد العالية، وعدد أبيات هذه القصيدة ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا، حال كون هذه الأبيات مضيئة المبنى كاملة المعنى.
3 - وقد كسيت منها المعاني عناية كما عريت عن كل عوراء مفصلا
4 - وتمت بحمد الله في الخلق سهلة منزهة عن منطق الهجر مقولا
5 - ولكنها تبغي على الناس كفؤها أخا ثقة يعفو ويغضي تجملا
6 - وليس لها إلا ذنوب وليها فيا طيب الأنفاس أحسن تأولا
الكلمة (العوراء) القبيحة، (المفصل) بكسر الصاد: القافية من البيت، أو جميع أجزائه، ونصب (مفصلا) على التمييز، و(الهجر) بضم الهاء وسكون الجيم الفحش، و(المقول) اللسان ونصب (مقولا) على التمييز، و(تبغي) تطلب. و(الكفؤ) المماثل، و(أخو الثقة) الراسخ في المحبة، و(الإغضاء) الستر والتجاوز، و(وليها) ناظمها، و(طيب النفس) هو
[ ص: 394 ] النقي الطاهر عن كل خبث ودنس، يقول: إن هذه القصيدة قد ألبست المعاني الشريفة والمقاصد المنيفة اعتناء بها واهتماما بشأنها، كما خلت عن كل عبارة قبيحة وجملة شنيعة، ومقصوده التحدث بنعمة الله عليه في توفيقه لنظم هذه القصيدة وعنايته بها حتى جاءت رصينة المعاني بعيدة عن كل ما يمجه السمع وينفر منه الطبع، ولا يخفى ما في الجمع بين (كسيت) و(عريت) من الطباق، ثم يقول: إنها كملت مقرونة بحمد الله سبحانه حال كونها سهلة الألفاظ عذبة التراكيب مبرأة عن القول الفاحش واللفظ الساقط، ثم يقول: إنها تطلب من الناس قارئا مماثلا لها في الكمال والفضل أمينا على ما فيها متجها إليها مقبلا عليها، لأنه إن وجد فيها عيبا تغاضى عنه، ثم يقول: ليس في هذه القصيدة عيب يشينها أو نقص يحط من قدرها إلا ذنوب ناظمها، وهذا من باب التواضع وهضم النفس، وإلا فالناظم من كبار الأولياء، وخيار الأصفياء، وأخيرا ينادي صادق الأنفاس نقي الضمير طاهر القلب أن يجتهد في تحسين تأويلها والدفاع عن هناتها.
7 - وقل رحم الرحمن حيا وميتا فتى كان للإنصاف والحلم معقلا
8 - عسى الله يدني سعيه بجوازه وإن كان زيفا غير خاف مزللا
9 - فيا خير غفار ويا خير راحم ويا خير مأمول جدا وتفضلا
10 - أقل عثرتي وانفع بها وبقصدها حنانيك يا ألله يا رافع العلا
يقال: (جاز) الموضع: سلكه وسار فيه، و(زيف) الدرهم: رداءته، و(المزلل) المنسوب إلى الزلل والخطإ، و(الجدا) بفتح الجيم والقصر العطية، وهو منصوب على التمييز.
و(العثرة) الزلة، و(الإقالة) منها الخلاص من تبعتها، و(حنانيك) من المصادر التي جاءت بلفظ التثنية المضافة للمخاطب نحو: لبيك وسعديك، والمراد بها المداومة والكثرة وعامله محذوف وجوبا، والتقدير: تحننا علينا بعد تحنن، والتحنن من الله الرحمة والإنعام، و(قطع همزة اسم الله في النداء جائز) تفخيما له واستعانة به على مد حرف النداء مبالغة في الطلب والرغبة، و(العلا) جمع العليا، وهو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: يا رافع السماوات العلا.
والمعنى: اطلب الرحمة لكل صاحب قوة ومروءة يكون للإنصاف في الكلام
[ ص: 395 ] والحلم في مقام الانتقام ملجأ وموئلا، سواء كان حيا أم ميتا إذ لا يستغني أحد عن رحمة مولاه.
والمراد (بالفتى) كل من يتصف بما ذكر، وقيل: أراد به نفسه ويؤيده قوله: (عسى الله يدني سعيه بجوازه).
المعنى: أنه يتوقع من فضل الله وكرمه أن يقرب سعيه، أي الناظم في نظمه بقبوله ونفع الطلاب به، وإن كان نظمه غير خال من العيب وظاهرا ما فيه من زلل، وقيل: المراد بالجواز تسهيل مروره على الصراط عند وروده، ثم انقطع الناظم عن الخلق وتوجه إلى الحق قائلا: يا خير من غفر الذنوب وستر العيوب، ويا خير محسن إلى عباده ومتفضل عليهم بأنواع العطايا والمنح، ويا خير مأمول منه كل خير وعطية، ومرجو منه كل منفعة وسعة، أقل عثرتي، واغفر زلتي، واستر خطيئتي، وانفع بهذه القصيدة ومقاصدها روادها المخلصين لها المقبلين عليها، ثم قال: أسألك يا ألله رحمة بعد رحمة، ونعمة إثر نعمة، دنيوية وأخروية حسية ومعنوية يا ألله، يا واجب الوجود، يا رافع السماوات العلا.
11 - وآخر دعوانا بتوفيق ربنا أن الحمد لله الذي وحده علا
12 - وبعد صلاة الله ثم سلامه على سيد الخلق الرضا متنخلا
13 - محمد المختار للمجد كعبة صلاة تباري الريح مسكا ومندلا
14 - وتبدي على أصحابه نفحاتها بغير تناه زرنبا وقرنفلا
(الدعوى) الدعاء، (المتنخل) المختار من نخلت الدقيق خلصته من الكدورات.
و(المجد) الشرف، (تباري الريح) تحاكيها وتعارضها، و(المسك) معروف، وكذا القرنفل و(المندل) العود الهندي أو نوع من الطيب، و(الزرنب) الزنجبيل، وقيل: ضرب من النبات طيب الرائحة، والباء في (بتوفيق) للسببية، و(متنخلا) حال من الرضا.
و(كعبة) حال من الضمير في المختار. و(مسكا) و(مندلا) حالان من الضمير في (تباري)، و(زرنبا وقرنفلا) حالان من (نفحاتها).
والمعنى: أن آخر دعائنا وسؤالنا كأول ثنائنا بسبب توفيق ربنا، هو: أن الحمد لله
[ ص: 396 ] أزلا وأبدا، أولا وآخرا ظاهرا وباطنا، الذي انفرد بالألوهية وتوحد بالربوبية لا إله غيره ولا معبود سواه، وفي البيت تلميح إلى قوله تعالى في بيان ما يقوله أهل الجنة:
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، وبعد تضرعه في الثناء وتخضعه في الدعاء يقول: (صلاة الله ثم سلامه) أي: إعطاء الرحمة والسلامة لسيد المخلوقات المرضي عند الله وعند جميع الكائنات حال كونه مختارا من صفوة الصفوة من عباد الله
محمد صلى الله عليه وسلم الموصوف بالمحامد العديدة والمحاسن الفريدة الذي يحمده الأولون والآخرون يوم القيامة وقت الشفاعة المختار من بين الخلائق لتبيين الحقائق لأجل شرفه حسبا ونسبا، من بين الخلق عجما وعربا، حال كونه كالقبلة في توجه الخلق إليه، وإقبالهم عليه،
وكالكعبة حيث يطول المجد والشرف حوله، ويتبع فعله، وقوله: صلاة عظيمة تحاكي الريح وتعارضها وتجري جريها في عظيم نفعها، وعموم أثرها حال كونها مشبهة طيب المسك وعبوق المندل في انتشارها، وتعدد محالها، وتظهر الصلاة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأحبابه وأشياعه، روائحها الطيبة ونفحاتها العطرة، التي لا انقضاء لها ولا انقطاع في الدنيا ولا في الآخرة حال كونها شبيهة بالزرنب والقرنفل في طيب الرائحة وعموم النفع.
وهذا آخر ما يسره الله تعالى من شرح (الشاطبية)، وأسأل الله جلت قدرته أن يخلع على هذا الكتاب ثوب القبول، وأن ينفع به أهل القرآن العظيم، في جميع الأمصار والأعصار، وأن يقيني به مصارع السوء، ويؤامنني به من كل ما أخاف وأحذر، وأن يهب لي به خاتمة الخير ويتجاوز عن فرطاتي، ويعفو عن زلاتي، وأن يحلني به دار المقامة من فضله، بواسع طوله، وسابغ نوله، إنه سبحانه الجواد الكريم، الرءوف الرحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا
محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.