مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
طريقة القرآن في المناظرة

والقرآن الكريم تناول كثيرا من الأدلة والبراهين التي حاج بها خصومه في صورة واضحة جلية يفهمها العامة والخاصة ، وأبطل كل شبهة فاسدة ونقضها بالمعارضة والمنع في أسلوب واضح النتائج ، سليم التركيب ، لا يحتاج إلى إعمال عقل أو كثير بحث .

ولم يسلك القرآن في الجدل طريقة المتكلمين الاصطلاحية في المقدمات والنتائج التي يعتمدون عليها ، من الاستدلال بالكلي على الجزئي في قياس الشمول ، أو الاستدلال بأحد الجزأين على الآخر في قياس التمثيل ، أو الاستدلال بالجزئي على الكلي في قياس الاستقراء .

أ- لأن القرآن جاء بلسان العرب ، وخاطبهم بما يعرفون .

ب- ولأن الاعتماد في الاستدلال على ما فطرت عليه النفس من الإيمان بما تشاهد وتحس دون عمل فكري عميق أقوى أثرا وأبلغ حجة .

جـ- ولأن ترك الجلي من الكلام والالتجاء إلى الدقيق الخفي نوع من الغموض والإلغاز لا يفهمه إلا الخاصة ، وهو على طريقة المناطقة ليس سليما من كل وجه ، فأدلة التوحيد والمعاد المذكورة في القرآن من نوع الدلالة المعينة المستلزمة لمدلولها بنفسها من غير احتياج إلى اندراجها تحت قضية كلية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية [ ص: 295 ] في كتابه " الرد على المنطقيين " : " وما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه وتعالى لا يدل شيء منها على عينه ، وإنما يدل على أمر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ، فإنا إذا قلنا : هذا محدث ، وكل محدث فلا بد له من محدث ، أو ممكن ، والممكن لا بد له من واجب ، إنما يدل هذا على محدث مطلق ، أو واجب مطلق . . لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه " . . وقال : " فبرهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه ، لا واجب الوجود ولا غيره ، وإنما يدل على أمر كلي ، والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ، وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه ، ومن لم يتصور ما يمنع الشركة فيه لم يكن قد أعرف الله " ، وقال : " وهذا بخلاف ما يذكر الله من الآيات في كتابه ، كقوله : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ، وقوله : " في ذلك لآيات لقوم يعقلون " ، " لقوم يتفكرون " ، وغير ذلك ، فإنه يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار . . وقال تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ، فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره ، فإن كل ما سواه مفتقر إليه نفسه ، فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه " .

فأدلة الله على توحيده وما أخبر به من المعاد ، وما نصبه من البراهين لصدق رسله لا تفتقر إلى قياس شمولي أو تمثيلي ، بل هي مستلزمة لمدلولها عينا ، والعلم بها مستلزم للعلم بالمدلول ، وانتقال الذهن منها إلى المدلول بين واضح كانتقال الذهن [ ص: 296 ] من رؤية شعاع الشمس إلى العلم بطلوعها ، وهذا النوع من الاستدلال بدهي يستوي في إدراكه كل العقول .

قال الزركشي : " اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة ، وما بين برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به ، لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين لأمرين .

أحدهما : بسبب ما قاله : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم . . الآية .

والثاني : أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام ، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزا ، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه من أجل صورة تشتمل على أدق دقيق ، لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة ، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الخطباء .

وعلى هذا حمل الحديث المروي : " إن لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حرف حدا ومطلعا " لا على ما ذهب إليه الباطنية ، ومن هذا الوجه كل من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر ، ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافته إلى أولي العقل ، ومرة إلى السامعين ، ومرة إلى المفكرين ، ومرة إلى المتذكرين ، تنبيها أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها ، وذلك نحو قوله تعالى : إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ، وغيرها من الآيات .

واعلم أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر استنباط البراهين العقلية على طرق المتكلمين . . . . ومن ذلك الاستدلال على أن صانع العالم واحد ، بدلالة التمانع [ ص: 297 ] المشار إليه في قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ; لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام ، ولا يتسق على إحكام ، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما ، وذلك لو أراد أحدهما إحياء جسم ، وأراد الآخر إماتته ، فإما أن تنفذ إرادتهما فتتناقض لاستحالة تجزؤ الفعل إن فرض الاتفاق ، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف ، وإما لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما ، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه ، والإله لا يكون عاجزا " .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية