نزول القرآن منجما
يقول تعالى في التنزيل :
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين .
ويقول :
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين .
ويقول :
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم .
ويقول :
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله .
ويقول :
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين .
فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه العربية ، وأن
جبريل نزل به
[ ص: 101 ] على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا النزول غير النزول الأول إلى سماء الدنيا ، فالمراد به نزوله منجما ، ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج والتنجيم ، فإن علماء اللغة يفرقون بين الإنزال والتنزيل ، فالتنزيل لما نزل مفرقا ، والإنزال أعم.
وقد نزل القرآن منجما في ثلاث وعشرين سنة منها ثلاث عشرة
بمكة على الرأي الراجح ، وعشر
بالمدينة ، وجاء التصريح بنزوله مفرقا في قوله تعالى :
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ، أي جعلنا نزوله مفرقا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت ، ونزلناه تنزيلا بحسب الوقائع والأحداث .
أما الكتب السماوية الأخرى -كالتوراة والإنجيل والزبور- فكان نزولها جملة ، ولم تنزل مفرقة ، يدل على هذا قوله تعالى :
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ، فهذه الآية دليل على أن الكتب السماوية السابقة نزلت جملة ، وهو ما عليه جمهور العلماء ، ولو كان نزولها مفرقا لما كان هناك ما يدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن منجما ، فمعنى قولهم :
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة : هلا أنزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب ؟ وما له أنزل على التنجيم ؟ ولم أنزل مفرقا ؟ ولم يرد الله عليهم بأن هذه سنته في إنزال الكتب السماوية كلها كما رد عليهم في قولهم :
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، بقوله :
وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، وكما رد عليهم في قولهم :
أبعث الله بشرا رسولا ، بقوله :
قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ، وقوله :
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، بل أجابهم الله تعالى ببيان وجه الحكمة في تنزيل القرآن منجما بقوله :
[ ص: 102 ] كذلك لنثبت به فؤادك أي كذلك أنزل مفرقا لحكمة هي : تقوية قلب رسول الله
ورتلناه ترتيلا أي قدرناه آية بعد آية بعضه إثر بعض ، أو بيناه تبيينا ، فإن إنزاله مفرقا حسب الحوادث أقرب إلى الحفظ والفهم وذلك من أعظم أسباب التثبيت .
والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل ، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة ، وصح نزول عشر آيات في أول المؤمنين جملة ، وصح نزول : غير أولي الضرر وحدها وهي بعض آية “ . .