[ ص: 209 ] التوفيق بين الرأيين بفهم معنى التأويل
بالرجوع إلى معنى " التأويل " يتبين أنه لا منافاة بين الرأيين ، فإن لفظ التأويل ورد لثلاثة معان :
الأول : صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو اصطلاح أكثر المتأخرين .
الثاني : التأويل بمعنى التفسير ، فهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه .
الثالث : التأويل : هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام ، فتأويل ما أخبر الله به عن ذاته وصفاته هو حقيقة ذاته المقدسة وما لها من حقائق الصفات ، وتأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو نفسه ما يكون في اليوم الآخر . وعلى هذا المعنى جاء قول
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650752 " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن " . تعني قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
فالذين يقولون بالوقف على قوله :
وما يعلم تأويله إلا الله ، ويجعلون :
والراسخون في العلم ، استئنافا ، إنما عنوا بذلك التأويل بالمعنى الثالث ، أي الحقيقة التي يؤول إليها الكلام ، فحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية أسمائه وصفاته وحقيقة المعاد لا يعلمها إلا الله .
والذين يقولون بالوقف على قوله :
والراسخون في العلم على أن الواو للعطف وليست للاستئناف ، إنما عنوا بذلك التأويل بالمعنى الثاني أي التفسير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد إمام المفسرين ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري فيه : إذا جاءك التفسير عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد فحسبك به ، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به أنه يعرف تفسيره .
وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين المذهبين في النهاية ، وإنما الأمر يرجع إلى الاختلاف في معنى التأويل .
[ ص: 210 ] ففي القرآن ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا ، ولكن الحقيقة ليست كالحقيقة ، فأسماء الله وصفاته وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي إلا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة المخلوق وصفاته ، والعلماء المحققون يفهمون معانيها ويميزون الفرق بينها ، وأما نفس الحقيقة فهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . ولهذا لما سئل
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى :
الرحمن على العرش استوى ، قالوا : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " ، وكذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=15885ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك قبله : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، ومن الله البيان ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا الإيمان " .
فبين أن الاستواء معلوم ، وأن كيفية ذلك مجهولة .
وكذلك الشأن بالنسبة إلى إخبار الله عن اليوم الآخر ، ففيها ألفاظ تشبه معانيها ما هو معروف لدينا إلا أن الحقيقة غير الحقيقة . ففي الآخرة ميزان ، وجنة ونار . وفي الجنة :
أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى .
فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة . . وذلك نعلمه ونؤمن به ، وندرك أن الغائب أعظم من الشاهد ، وما في الآخرة يمتاز عما في الدنيا ، ولكن حقيقة هذا الامتياز غير معلومة لنا ، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . . "