[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل الحمد لله المتصف بصفات الكمال ، المنعوت بنعوت الجلال والجمال ، المنفرد بالإنعام والإفضال ، والعطاء والنوال ، المحسن المجمل على ممر الأيام والليالي . أحمده حمدا لا تغير له ولا زوال . وأشكره شكرا لا تحول له ولا انفصال . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا مثل ولا مثال ، شهادة أدخرها ليوم لا بيع فيه ولا خلال . وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله ، الداعي إلى أصح الأقوال ، وأسد الأفعال ، المحكم للأحكام ، والمميز بين الحرام والحلال . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وخير آل ، صلاة دائمة بالغدو والآصال .
أما بعد ، فإن كتاب " المقنع " في الفقه تأليف شيخ الإسلام
nindex.php?page=showalam&ids=13439موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قدس الله روحه ، ونور ضريحه من أعظم الكتب نفعا ، وأكثرها جمعا ، وأوضحها إشارة ، وأسلسها عبارة ، وأوسطها حجما ، وأغزرها علما ، وأحسنها تفصيلا وتفريعا ، وأجمعها تقسيما وتنويعا ، وأكملها ترتيبا ، وألطفها تبويبا . قد حوى غالب أمهات مسائل المذهب ، فمن حصلها فقد ظفر بالكنز والمطلب . فهو كما قال مصنفه فيه " جامعا لأكثر الأحكام " ولقد صدق وبر ونصح . فهو الحبر الإمام . فإن من نظر فيه بعين التحقيق والإنصاف ، وجد ما قال حقا وافيا بالمراد من غير خلاف ، إلا أنه رحمه الله تعالى أطلق في بعض مسائله الخلاف من غير ترجيح . فاشتبه على الناظر فيه الضعيف من الصحيح . فأحببت إن يسر الله تعالى أن أبين الصحيح من المذهب والمشهور ، والمعمول عليه والمنصور ، وما اعتمده أكثر الأصحاب ، وذهبوا إليه ، ولم يعرجوا على غيره ولم يعولوا عليه .
[ ص: 4 ] فصل اعلم رحمك الله تعالى : أن المصنف رحمه الله تعالى يكرر في كتابه أشياء كثيرة ، عبارته فيها مختلفة الأنواع ، فيحتاج إلى تبيينها ، وأن يكشف عنها القناع . فإنه : تارة يطلق " الروايتين " أو " الروايات " أو " الوجهين " أو " الوجه " أو " الأوجه " أو " الاحتمالين " أو " الاحتمالات " بقوله " فهل الحكم كذا ؟ على روايتين ، أو على وجهين ، أو فيه روايتان ، أو وجهان ، أو احتمل كذا واحتمل كذا " ونحو ذلك . فهذا وشبهه الخلاف فيه مطلق . والذي يظهر : أن إطلاق المصنف وغالب الأصحاب ليس هو لقوة الخلاف من الجانبين . وإنما مرادهم : حكاية الخلاف من حيث الجملة . بخلاف من صرح باصطلاح ذلك ، كصاحب الفروع ، ومجمع البحرين وغيرهما . وتارة يطلق الخلاف بقوله مثلا " جاز ، أو لم يجز ، أو صح ، أو لم يصح ، في إحدى الروايتين ، أو الروايات ، أو الوجهين أو الوجوه " أو بقوله " ذلك على إحدى الروايتين ، أو الوجهين " والخلاف في هذا أيضا مطلق ، لكن فيه إشارة ما إلى ترجيح الأول . وقد قيل : إن المصنف قال " إذا قلت ذلك ، فهو الصحيح ، وهو ظاهر مصطلح
الحارثي في شرحه " وفيه نظر . فإن في كتابه مسائل كثيرة يطلق فيها الخلاف بهذه العبارة . وليست المذهب ، ولا عزاها أحد إلى اختياره . كما يمر بك ذلك إن شاء الله تعالى . ففي صحته عنه بعد ، وربما تكون الرواية أو الوجه المسكوت عنه مقيدا بقيد ، فأذكره : وهو في كلامه كثير .
وتارة يذكر حكم المسألة مفصلا فيها . ثم يطلق روايتين فيها ، ويقول " في الجملة " بصيغة التعريض . كما ذكره في آخر الغصب ، أو يحكي بعد ذكر الحكم إطلاق الروايتين عن الأصحاب . كما ذكره في باب الموصى له . ويكون في ذلك أيضا تفصيل ، فنبينه إن شاء الله تعالى .
[ ص: 5 ] وتارة يطلق الخلاف بقوله بعد ذكر حكم المسألة " يحتمل وجهين " والغالب : أن ذلك وجهان للأصحاب . إلا أنه لم يطلع على الخلاف ، فوافق كلامهم ، أو تابع عبارة غيره . وتارة يقول " فعنه كذا ، وعنه كذا " كما قاله في باب النذر ، والمعروف من المصطلح : أن الخلاف فيه مطلق . وتارة يقول " فقال فلان كذا ، وقال فلان كذا " كما ذكره في باب الإقرار بالمجمل ، وغيره . وهذا من جملة الخلاف المطلق فيما يظهر . وتارة يقول بعد حكم المسألة " ذكره فلان ، وقال فلان كذا ، أو عند فلان كذا ، وعند فلان كذا " كما ذكره في باب جامع الأيمان ، وكتاب الإقرار وغيرهما . وهذا في قوة الخلاف المطلق . ولو قيل : إن فيه ميلا إلى قوة القول الأول لكان له وجه . وتارة يقول بعد ذكر الحكم " حكم المسألة في قول فلان ، أو فقال فلان كذا ، وقال غيره كذا " كما ذكره في باب الأضحية والشفعة والنذر . وهذا أيضا في قوة الخلاف المطلق .
وتارة يقول بعد ذكر حكم المسألة " عند فلان ، ويحتمل كذا . أو فقال فلان كذا ، ويحتمل كذا " كما ذكره في أواخر باب جامع الأيمان ، وأواخر باب
شروط من تقبل شهادته . فظاهر هذه العبارة : أنه ما اطلع على غير ذلك القول ، وذكر هو الاحتمال . وقد يكون تابع عبارة غيره . وقد يكون في المسألة خلاف فننبه عليه .
وتارة يقول " فقال فلان كذا " ويقتصر عليه ، من غير ذكر خلاف . فقد لا يكون فيها خلاف ، كما ذكره عن القاضي في باب الفدية ، في الضرب الثالث في الدماء الواجبة . فهو في حكم المجزوم به . وقد يكون فيها خلاف ، كما ذكره عن القاضي في باب الهبة .
[ ص: 6 ] وتارة يقول بعد ذكر حكم المسألة " في رواية " كما ذكره في واجبات الصلاة ، وباب محظورات الإحرام . أو يقول " في وجه " كما ذكره في أركان النكاح . ففي هذا يكون اختياره في الغالب خلاف ذلك . وفيه إشعار بترجيح المسكوت عنه ، مع احتمال الإطلاق .
وقد قال في الرعاية الكبرى في كتاب النفقات " وإن كان الخادم لها ، فنفقته على الزوج ، وكذا نفقة المؤجر والمعار في وجه " قال في الفروع " وقوله في وجه يدل على : أن الأشهر خلافه " . وتارة يحكي الخلاف وجهين ، وهما روايتان . وقد يكون الأصحاب اختلفوا في حكاية الخلاف . فمنهم من حكى وجهين . ومنهم من حكى روايتين . ومنهم من ذكر الطريقتين . فأذكر ذلك إن شاء الله تعالى . وتارة يذكر حكم المسألة ، ثم يقول " وعنه كذا . أو وقيل ، أو وقال فلان . أو ويتخرج . أو ويحتمل كذا " والأول هو المقدم عند المصنف وغيره . وقل أن يوجد ذلك التخريج أو الاحتمال إلا وهو قول لبعض الأصحاب ، بل غالب الاحتمالات
nindex.php?page=showalam&ids=14953للقاضي أبي يعلى في " المجرد " وغيره . وبعضها
nindex.php?page=showalam&ids=11851لأبي الخطاب ولغيره . وقد تكون للمصنف . وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى . " فالتخريج " في معنى الاحتمال . و " الاحتمال " في معنى " الوجه " إلا أن الوجه مجزوم بالفتيا به ، قاله في " المطلع " يعني من حيث الجملة . وهذا على إطلاقه فيه نظر ، على ما يأتي في أواخر كتاب القضاء . وفي القاعدة آخر الكتاب . و " الاحتمال " تبيين أن ذلك صالح لكونه وجها . ف " التخريج " نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها ، والتسوية بينهما فيه . و " الاحتمال " يكون : إما لدليل مرجوح بالنسبة إلى ما خالفه . أو لدليل مساو له . ولا يكون التخريج أو الاحتمال إلا إذا فهم المعنى . و " القول " يشمل الوجه ، والاحتمال ، والتخريج . وقد يشمل الرواية ،
[ ص: 7 ] وهو كثير في كلام المتقدمين ،
كأبي بكر ،
وابن أبي موسى وغيرهما . والمصطلح الآن على خلافه . وربما يكون ذلك القول الذي ذكره المصنف ، أو الاحتمال ، أو التخريج رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد .
وربما كان ذلك هو المذهب ، كما ستراه إن شاء الله تعالى مبينا . وتارة يذكر حكم المسألة ، ثم يقول " وقيل عنه كذا " كما ذكره في باب الموصى له ، وعيوب النكاح . أو " وحكي عنه كذا " كما ذكره في باب نواقض الوضوء وغيره . أو " وحكي عن فلان كذا " كما ذكره في باب القسمة ، بصيغة التعريض في ذلك . وقد يكون بعضهم أثبته لصحته عنده فتبينه . وتارة يحكي الخلاف في المسألة ، ثم يقول : قال فلان كذا " بغير واو . ولا يكون ذلك في الغالب إلا موافقا لما قبله . لكن ذكره لفائدة ، إما لكونه أعم ، أو أخص من الحكم المتقدم ، أو يكون مقيدا أو مطلقا ، والحكم بخلافه ونحوه . وربما ذكر ذلك لمفهوم ما قبله ، كما ذكره في العاقلة عن
أبي بكر . وهي عبارة عقدة .
وتارة يقول بعد ذكر المسألة " في ظاهر المذهب . أو وظاهر المذهب كذا . أو في الصحيح من المذهب . أو في الصحيح عنه . أو في المشهور عنه " ولا يقول ذلك إلا وثم خلاف . والغالب : أن ذلك كما قال . وقد يكون ظاهر المذهب . والصحيح من المذهب عنده دون غيره ، كما ذكره في باب سجود السهو وغيره . و " ظاهر المذهب " هو المشهور في المذهب .
وتارة يقول " في أصح الروايتين ، أو الوجهين . أو على أظهر الروايتين ،
[ ص: 8 ] أو الوجهين " ولا تكاد تجد ذلك إلا المذهب . وقد يكون المذهب خلافه ، ويكون الأصح والأظهر عند المصنف ومن تابعه .
وتارة يطلق الخلاف ، ثم يقول " أولاهما كذا " كما ذكره في تفريق الصفقة والعدد . وهذا يكون اختياره ، وقد يكون المذهب كما في العدد . وتارة يقول بعد حكايته الخلاف " والأول أصح ، أو وهي أصح " كما ذكره في الكفاءة وغيرها ، ويكون في الغالب كما قال وقد يكون ذلك اختياره . وتارة يقول " والأول أقيس وأصح " كما قاله في المساقاة . أو " والأول أحسن " كما ذكره في آخر باب ميراث الغرقى والهدمى . وهذا يكون اختياره .
وتارة يصرح باختياره فيقول " وعندي كذا . أو هذا الصحيح عندي . أو والأقوى عندي كذا . أو والأولى كذا . أو وهو أولى " وهذا في الغالب يكون رواية ، أو وجها . وقد يكون اختاره بعض الأصحاب . وربما كان المذهب . وتارة يقدم شيئا ، ثم يقول " والصحيح كذا " كما ذكره في كتاب العتق وغيره . ويكون كما قال . وربما كان ذلك اختياره . وتارة يقول " قال أصحابنا ، أو وقال أصحابنا ، أو وقال بعض أصحابنا كذا ، ونحوه " وقد عرف من اصطلاحه : أن اختياره مخالف لذلك . وتارة يقول " اختاره شيوخنا ، أو عامة شيوخنا " كما ذكره في كتاب الظهار ، وفي آخر باب طريق الحكم وصفته . وتارة يقول " نص عليه ، وهو اختيار الأصحاب " كما ذكره في باب طريق الحكم وصفته . والمذهب يكون كذلك . وتارة يذكر الحكم ، ثم يقول " هذا المذهب " ثم يحكي خلافا . كما ذكره في باب صريح الطلاق وكنايته . أو يذكر قولا ، ثم يقول " والمذهب كذا " كما ذكره في باب الاستثناء في الطلاق . أو يقول " والمذهب الأول " كما ذكره في كتاب النفقات . ويكون المذهب كما قال .
[ ص: 9 ] وتارة يذكر حكم المسألة ، ثم يقول " أومأ إليه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ، وعند فلان كذا " كما ذكره في باب الربا . أو يقدم حكما ، ثم يقول " وأومأ في موضع بكذا " كما ذكره في كتاب الغصب . وهذا يؤخذ من مدلول كلامه . وتارة يقول " ويفعل كذا في ظاهر كلامه " كما ذكره في باب ستر العورة ، والغصب ، وشروط القصاص ، والزكاة والقضاء . و " الظاهر " من الكلام هو : اللفظ المحتمل معنيين فأكثر ، هو في أحدهما أرجح . أو ما تبادر منه عند إطلاقه معنى ، مع تجويز غيره . ويأتي هذا والذي قبله وغيرهما أول القاعدة آخر الكتاب . وتارة يقول " نص عليه ، أو والمنصوص كذا ، أو قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد كذا ونحوه " وقد يكون في ذلك خلاف فأذكره ، وربما ذكره المصنف . و " النص " و " المنصوص " هو : الصريح في معناه .
وتارة يقطع بحكم مسألة ، وقد يزيد فيها ، فيقول " بلا خلاف في المذهب " كما ذكره في كتاب القضاء وغيره . أو يقول " وجها واحدا . أو رواية واحدة " وهو كثير في كلامه . ويكون في الغالب فيها خلاف كما ستراه . وربما كان المسكوت عنه هو المذهب ، بل ربما جزم في كتبه بشيء والمذهب خلافه . كما ذكره في كتاب الطهارة في مسألة اشتباه الطاهر بالطهور .
وتارة يذكر المسألة ، ثم يقول " فالقياس كذا " ثم يحكي غيره ، كما ذكره في كتاب الديات . أو يذكر الحكم ، ثم يقول " والقياس كذا " كما ذكره في باب تعارض البينتين . أو يذكر حكم المسألة ، ثم يقول " في قياس المذهب " ويقتصر عليه ، كما ذكره في كتاب الصداق واللعان . أو يذكر الحكم ، ثم يقول " وقياس المذهب كذا " كما ذكره في باب الهبة . وفي الغالب يكون ذلك اختياره . وربما كان المذهب ، كما ستراه .
وتارة يحكي بعض الأقوال ، ثم يقول " ولا عمل عليه " كما ذكره في كتاب
[ ص: 10 ] الفرائض ، وأحكام أمهات الأولاد ، وشروط القصاص . وربما قواه بعض الأصحاب واختاره ، فيكون قوله ، ولا عمل عليه عنده وعند من تابعه .
وتارة يقول هو أو غيره ، بعد حكايته الخلاف " هذا قول قديم ، رجع عنه " كما ذكره في الغصب ، والهبة وغيرهما . وقد يكون اختاره بعض الأصحاب .