كتاب الجنايات مناسبته أن الرهن لصيانة المال وحكم الجناية لصيانة الأنفس والمال وسيلة للنفس فقدم ، ثم الجناية لغة اسم لما يكتسب من الشر . وشرعا اسم لفعل محرم حل بمال أو نفس ، وخص الفقهاء الغصب والسرقة بما حل بمال والجناية بما حل بنفس وأطراف . ( القتل ) الذي يتعلق به الأحكام الآتية من قود ودية وكفارة وإثم وحرمان إرث ( خمسة ) وإلا فأنواعه كثيرة كرجم وصلب وقتل حربي ، الأول ( عمد ، وهو أن يتعمد ضربه ) أي ضرب الآدمي في أي موضع من جسده ( ب ) آلة تفرق الأجزاء مثل ( سلاح ) ومثقل لو من حديد جوهرة [ ص: 528 ] ( ومحدد من خشب ) وزجاج ( وحجر ) وإبرة في مقتل برهان ( وليطة ) وقوله ( ونار ) عطف على محدد لأنها تشق الجلد وتعمل عمل الذكاة ، حتى لو وضعت في المذبح فأحرقت العروق أكل ، يعني إن سال بها الدم وإلا لا كما في الكفاية قلت : في شرح الوهبانية : كل ما به الذكاة به القوة وإلا فلا ا هـ . وفي البرهان : وفي حديد غير محدد كالسنجة روايتان أظهرهما أنها عمد . وفي المجتبى وإحماء التنور يكفي للقود وإن لم يكن فيه نار . وفي معين المفتي للمصنف : الإبرة إذا أصابت المقتل ففيه القود وإلا فلا ا هـ فيحفظ . وقالا الثلاثة : ضربه قصدا بما لا تطيقه البنية كخشب عظيم عمد ( وموجبه الإثم ) فإن حرمته أشد من حرمة إجراء كلمة الكفر لجوازه لمكره ، بخلاف القتل .
[ ص: 529 ] ( و ) موجبه ( القود عينا ) فلا يصير مالا إلا بالتراضي فيصح صلحا ولو بمثل الدية أو أكثر ابن كمال عن الحقائق ( لا الكفارة ) لأنه كبيرة محضة ، وفي الكفارة معنى العبادة فلا يناط بها .
كتاب الجنايات ( قوله وحكم الجناية ) هو القصاص أو الدية والكفارة وحرمان الإرث ط ( قوله والمال وسيلة ) جواب عما يقال كان الأولى تقديم الجنايات لأهميتها بتعلقها بالأنفس ط . قلت : وما مر من مناسبة الرهن لما قبله تغني عن هذا ( قوله اسم لما يكتسب ) وهي في الأصل مصدر ثم أريد به اسم المفعول ( قوله والجناية بما حل بنفس وأطراف ) أي في هذا الكتاب وإلا في جنايات الحج لم تتعلق بنفس الآدمي ولا طرف من إطلاق الفقهاء عليها الجناية شرنبلالية ( قوله وإلا ) أي وإن لم يرد بالقتل هنا القتل المذكور لم يصح الحصر في الخمسة : والحاصل أن المراد هنا قتل محرم ، فلا يشمل القتل المأذون به شرعا كقصاص ورجم ( قوله أن يتعمد ضربه ) أي ضرب المقتول ، فيخرج العمد فيما دون النفس سعدي ، ولم يقل أن يتعمد قتله لما سيذكره الشارح قريبا أنه لو أراد يد رجل فأصاب عنقه فهو عمد ، ولو عنق غيره فخطأ ، ولذا قال في المجتبى : إن قصد القتل ليس بشرط لكونه عمدا ، وإليه أشار الشارح بقوله في أي موضع من جسده ، واحترز بالتعمد عن الخطأ وبقوله بآلة إلخ عن الباقي ( قوله بآلة تفرق الأجزاء ) إنما شرط فيها ذلك لأن العمد هو القصد ولا يوقف عليه إلا بدليله ، ودليله استعمال القاتل آلته فأقيم الدليل مقام المدلول ، لأن الدلائل تقوم مقام مدلولاتها في المعارف الظنية الشرعية منح ، وهو صريح في أنه يجب القصاص وإن لم يذكر الشهود العمد وبه صرح الأتقاني . وفي أنه لا يقبل قول القاتل لم أقصد قتله ، بخلاف ما لو أقر وقال أردت غيره فيحمل على الأدنى وهو الخطأ ، وتمامه في حاشية الرملي ، وسنذكره إن شاء الله تعالى في باب الشهادة على القتل ( قوله جوهرة ) عبارتها العمد ما تعمد قتله بالحديد كالسيف والسكين والرمح والخنجر والنشابة والإبرة وإلا شفي وجميع ما كان من الحديد ، سواء كان يقطع أو يبضع كالسيف ومطرقة الحداد والزبرة وغير ذلك ، سواء كان الغالب منه الهلاك أم لا . ولا يشترط الجرح في الحديد في ظاهر الرواية لأنه [ ص: 528 ] وضع للقتل ، قال تعالى - { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } - وكذا كل ما يشبه الحديد كالصفر والرصاص والذهب والفضة ، سواء كان يبضع أو يرض : حتى لو قتله بالمثقل منها يجب عليه القصاص كما إذا ضربه بعمود من صفر أو رصاص ا هـ . وروى nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي عن nindex.php?page=showalam&ids=11990الإمام اعتبار الجرح في الحديد ونحوه قال الصدر الشهيد : وهو الأصح ، ورجحه في الهداية وغيرها كما سيأتي في الفصل الآتي في مسألة المر .
قلت : وعلى كل فالقتل بالبندقة الرصاص عمد لأنها من جنس الحديد وتجرح فيقتص به ، لكن إذا لم تجرح لا يقتص به على رواية nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي كما أفاده ط عن الشلبي . والإشفن بالشين المعجمة : ما يخرز به كما في القاموس ( قوله ومحدد من خشب ) أي بأن نحت حتى صار له حدة يقطع بها ، وليس المراد ما يكون في طرفه حديد كما وهم ; لأنه مسألة المر الآتية ، وفيها تفصيل وخلاف ( قوله وإبرة في مقتل ) قال في الاختيار : روى nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف عن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة فيمن ضرب رجلا بإبرة وما يشبهها عمدا فمات لا قود فيه ، وفي المسلة ونحوها القود ; لأن الإبرة لا يقصد بها القتل عادة ويقصد بالمسلة . وفي رواية أخرى إن غرز بالإبرة في المقتل قتل وإلا فلا ا هـ . وقال في البزازية : غرزه بإبرة حتى مات يقتص به ; لأن العبرة للحديد . وقال في موضع آخر لا قصاص إلا إذا غرزه في المقتل ، وكذا لو عضه ا هـ . وفي شرح الوهبانية : في الإبرة القود في ظاهر الرواية ا هـ .
وفي القهستاني وعليه الفتوى ا هـ وجزم بعدمه في الخانية . أقول : يمكن أن يكون التقييد بالمقتل توفيقا فتأمل ( قوله وليطة ) بكسر اللام : قشر القصب اللازق به ط عن الحموي ( قوله عطف على محدد ) أي لا على خشب ; لأنها ليست من المحدد : قال سعدي : وينبغي أن يكون من قبيل علفتها تبنا وماء باردا إذ الواقع في صورة النار هو الإلقاء فيها لا الضرب بها ا هـ ( قوله ; لأنها تشق الجلد إلخ ) بيان لكونها من العمد ( قوله كما في الكفاية ) قال ط : ونحوه في الخزانة والنهاية حموي عن المقدسي ا هـ ( قوله وفي البرهان إلخ ) ذكر هذه النقول الثلاثة نقضا لعكس الكلية وهو قوله وإلا فلا ، وهو ظاهر ; لأن المشروط في الذكاة فري الأوداج وإنهار الدم ، وذلك لا يحصل بالسنجة والتنور المحمي والإبرة ، ولذا أعاد مسألة الإبرة وإن كان ذكرها آنفا فافهم ( قوله غير محدد ) أي لا حد له ( قوله كالسنجة ) في القاموس : سنجة الميزان مفتوحة وبالسين أفصح من الصاد ا هـ . وذكر في فصل الصاد : الصنج شيء يتخذ من صفر يضرب أحدهما بالآخر ، وآلة بأوتار يضرب بها ا هـ .
زاد في المغرب : ويقال لما يجعل في إطار الدف من الهنات المدورة صنوج أيضا ( قوله أظهرهما أنها عمد ) بناء على عدم اشتراط الجرح في الحديد ونحوه ( قوله وإن لم يكن فيه نار ) أي على الصحيح قهستاني . وفيه : لو قيد بحبل ثم ألقي في قدر فيه ماء مغلي جدا فمات من ساعته أو فيه ماء حار فأنضج جسده ومكث ساعة ثم مات قتل به كما في الظهيرية ( قوله بما لا تطيقه البنية ) أي البدن . في القاموس : البنية بالضم والكسر ما بنيته . وبنى الطعام بدنه : سمنه ، ولحمه أنبته ( قوله فإن حرمته ) الأولى وحرمته ط ( قوله أشد من إجراء كلمة الكفر ) أي أشد من الكفر الصوري ، [ ص: 529 ] فإنه إذا أكره عليه بملجئ يرخص مع اطمئنان القلب إحياء لنفسه ، ولو أكره بالقتل على قتل غيره لا يرخص أصلا لاستواء النفسين ، واحترز به عن الكفر القلبي فإنه أشد ولا يرخص بحال .
وفي الجوهرة : واعلم أن قتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر بعد الكفر بالله تعالى وتقبل التوبة منه فإن قتل مسلما ثم مات قبل التوبة منه لا يتحتم دخوله النار بل هو في مشيئة الله تعالى كسائر أصحاب الكبائر ، فإن دخلها لم يخلد فيها ا هـ . وأما الآية فمؤولة بقتله لإيمانه أو بالاستحلال أو بأن يراد بالخلود المكث الطويل ، وسيذكر الشارح في آخر الفصل الآتي عن الوهبانية أنه لا تصح توبة القاتل ما لم يسلم نفسه للقود ( قوله وموجبه القود ) بفتح الواو أي القصاص ، وسمي قودا ; لأنهم يقودون الجاني بحبل وغيره قاله الأزهري ا هـ سعدي . ثم إنما يجب القود بشرط في القاتل والمقتول يذكر في الفصل الآتي ( قوله فلا يصير مالا إلخ ) تفريع على قوله عينا : أي ليس لولي الجناية العدول إلى أخذ الدية إلا برضا القاتل ، وهو أحد قولي nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وفي قوله الآخر الواجب أحدهما لا بعينه ويتعين باختياره والأدلة في المطولات ( قوله فيصح صلحا ) أي إذا كان القود عندنا هو الواجب في العمد فلا ينقلب مالا إلا من جهة الصلح ( قوله ولو بمثل الدية أو أكثر ) أطلقه فشمل ما لو كان من جنسها أو من غيره حالا أو مؤجلا كما في الجوهرة ، وأشار إلى خلاف nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فإنه على قوله الثاني لو صالح على أكثر من الدية من جنسها لا يصح ; لأنه يصير ربا ويصح على قوله الأول ، وتمامه في الكفاية ( قوله ; لأنه كبيرة محضة ) وذلك بنص الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=108487أكبر الكبائر الإشراك بالله تعالى وقتل النفس وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، أو قال شهادة الزور } رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ( قوله وفي الكفارة معنى العبادة ) بدليل أن للصوم والإعتاق فيها مدخلا فهي دائرة بين العبادة والعقوبة ، فلا بد أن يكون سببها أيضا دائرا بين الحظر والإباحة لتعلق العبادة بالمباح والعقوبة بالمحظور كالخطأ فإن فيه معنى الإباحة . أما العمد فهو كبيرة محضة كالزنا والسرقة والربا ، ولا يقاس على الخطأ ; لأن الكفارة من المقدرات فلا تثبت بالقياس ولأن الخطأ دونه في الإثم ، وتمامه في المطولات ( قوله لكن في الخانية إلخ ) أي في آخر فصل المعاقل .
أقول : لكنه مخالف لما في المشروح كالنهاية والعناية والمعراج من أنه لا كفارة في العمد وجب فيه القصاص أو لا كالأب إذا قتل ابنه عمدا والمسلم إذا قتل من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا عمدا ا هـ فتأمل