قال
شيخنا فيما إذا
كان المدعي امرأة على زوجها : فإذا حبس لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس يستحقها عليها بعد الحبس ، كحبسه في دين غيرها ، فله إلزامها ملازمة بيته ولا يدخل إليه أحد بلا إذنه ، فإن خاف أن تخرج منه بلا إذنه فله أن يسكنها حيث لا يمكنها الخروج ، كما لو سافر عنها أو حبسه غيرها ، ولا يجب
حبسه [ ص: 294 ] في مكان معين ، بل المقصود تعويقه عن التصرف حتى يؤدي ذلك ، فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه ، بحيث لا يمكن من الخروج . ويجوز أن يحبس وترسم هي عليه إذا حصل المقصود بذلك بحيث يمنعه من الخروج ، وهذا أشبه بالسنة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغريم بملازمة غريمه وقال له {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34520ما فعل أسيرك } وإنما المرسم وكيل الغريم في الملازمة ، فإذا
لم يكن للزوج من يحفظ امرأته غير نفسه ، وأمكن أن يحبسهما في بيت واحد ، فتمنعه هي من الخروج ، ويمنعها هو من الخروج ، فعل ذلك ، فإن له عليها حبسها في منزله ، ولها عليه حبسه في دينها ، وحقه عليها أوكد ، فإن حق نفسه في المبيت ثابت ظاهرا وباطنا ، بخلاف حبسها له فإنه بتقدير إعساره ، لا يكون حبسه مستحقا في نفس الأمر إذ حبس العاجز لا يجوز ، لقوله تعالى : {
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولأن حبسها له عقوبة حتى يؤدي الواجب عليه ، وحبسه لها حق يثبت بموجب العقد ، وليس بعقوبة ، بل حقه عليها كحق المالك على المملوك ، ولهذا كان النكاح بمنزلة الرق والأسر للمرأة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه : النكاح رق ، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته .
[ ص: 295 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت : الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله {
وألفيا سيدها لدى الباب } وقال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=13110اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم } والعاني : الأسير ، وإذا كان كذلك ظهر أن ما يستحقه عليها من الحبس أعظم مما تستحقه عليه ، إذ غاية الغريم أن يكون كالأسير ، ولأنه يملك مع حبسها في منزله الاستمتاع بها متى شاء ، فحبسه لها دائما يستوفي في حبسها ما يستحقه عليها ، وحبسها له عارض إلى أن يوفيها حقها . والحبس الذي يصلح لتوفية الحق مثل المالك لأمته ، بخلاف الحبس إلى أن يستوفى الحق ، فإنه من جنس حبس الحر للحر ، ولهذا لا يملك الغريم منع المحبوس من تصرف يوفي به الحق ، ولا يمنعه من حوائجه إذا احتاج الخروج من الحبس مع ملازمته له ، وليس على المحبوس أن يقبل ما يبذله له الغريم مما عليه منة فيه . ويملك الرجل منع امرأته من الخروج مطلقا إذا قام بما لها عليه ، وليس لها أن تمتنع من قبول ذلك ، وبهذا وغيره يتبين أن له أن يلزمها ويمنعها من الخروج أكثر مما لها أن تلزمه وتمنعه من الخروج من حبسه ، فإذا لم يكن له من يقوم مقامه في ذلك لم يجز أن يمنع من ملازمتها ، وهذا حرام بلا ريب . ولا ينازع أحد من أهل العلم أن حبس الرجل إذا توجه تتمكن معه امرأته من الخروج من منزله ، وإسقاط حقه عليها حرام لا يحل لأحد من ولاة
[ ص: 296 ] الأمور والحكام فعل ذلك ، حرة عفيفة كانت أو فاجرة ، فإن ما يفضي إلى تمكينها من الخروج إسقاط لحقه ، وذلك لا يجوز لا سيما وذلك مظنة لمضارتها له أو فعلها للفواحش إلى أن قال : فرعاية مثل هذا من أعظم المصالح التي لا يجوز إهمالها ، قال : وهي إنما تملك ملازمته ، وملازمته تحصل بأن تكون هي وهو في مكان واحد ، ولو
طلب منها الاستمتاع في الحبس فعليها أن توفيه ذلك ، لأنه حق عليها ، وإنما المقصود بالحبس أو الملازمة أن الغريم يلازمه حتى يوفيه حقه ، ولو لازمه في داره جاز ، فإن قيل : فهذا يفضي إلى أن يمطلها ولا يوفي ، فالجواب أن تعويقه عن التصرف هو الحبس ، وهو كاف في المقصود إذا لم يظهر امتناعه عن أداء الواجبات فإن
ظهر أنه قادر وامتنع ظلما ، عوقب بأعظم من الحبس بضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي ، كما نص على ذلك أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد وغيرهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35166مطل الغني ظلم } والظالم يستحق العقوبة ، فإن العقوبة تستحق على ترك واجب أو فعل محرم ، ولقوله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33760لي الواجد يحل عرضه وعقوبته } ومع هذا لا يسقط حقه الذي على امرأته ، بل يملك حبسها في منزله . وأما تمكين مثل هذا
[ ص: 297 ] يعني الممتنع عن الوفاء ظلما من فضل الأكل والنكاح فهذا محل اجتهاد ، فإنه من نوع التعزير ، فإن رأى الحاكم أن يعزره به كان له ذلك ، إذ التعزير لا يختص بنوع معين ، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد ولي الأمر في تنوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله ، ولكن المحبوسون على حقوق النساء ليسوا من هذا الضرب ، فإن لم يحصل المقصود بحبسهما جميعا إما لعجز أحدهما عن حفظ الآخر أو لشر يحدث بينهما ونحو ذلك ، وأمكن أن تسكن في موضع لا تخرج منه ، وهو ينفق عليها ، مثل أن يسكنها في رباط نساء أو بين نسوة مأمونات فعل ذلك ، ففي الجملة لا يجوز حبسها له وتذهب حيث شاءت ، باتفاق العلماء ، بل لا بد من الجمع بين الحقين ورعاية المصلحتين ، لا سيما إذا كان ذهابها مظنة للفاحشة ، فإن ذلك يصير حقا لله يجب على ولي الأمر رعايته وإن لم يطلبه الزوج .