البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله : ولا يحنث بشراء كباسة بسر فيها رطب في لا يشتري رطبا ) أي لو حلف لا يشتري رطبا فاشترى كباسة بسر فيها رطب لم يحنث ; لأن الشراء يصادف جملته والمغلوب تابع ، ولو كان اليمين على الأكل يحنث ; لأن الأكل يصادفه شيئا فشيئا فكان كل واحد منهما مقصودا وصار كما إذا حلف لا يشتري شعيرا أو لا يأكل فاشترى حنطة فيها حبات شعير أو أكلها يحنث في الأكل دون الشراء لما قدمنا قال في الخانية لو حلف لا يشتري ألية فاشترى شاة مذبوحة كان حانثا ، وكذا إذا حلف لا يشتري رأسا والكباسة بكسر الكاف عنقود النخل والجمع كبائس قال في التبيين بخلاف ما إذا عقد يمينه على المس حيث يحنث في الوجوه كلها ; لأن المس فيها متصور حقيقة ، واسم المحلوف عليه باق بخلاف ما إذا حلف لا يمس قطنا أو كتانا فمس ثوبا اتخذ منه حيث لا يحنث لزوال اسم القطن والكتان عنه فصار كمن حلف لا يأكل سمنا أو زبدا أو لا يمسه فأكل لبنا أو مسه .

( قوله : وبسمك في لا يأكل لحما ) أي لو حلف لا يأكل لحما لا يحنث بأكل لحم السمك ، وإن سماه الله تعالى لحما في القرآن للعرف ، وقد قدمنا أن الأيمان مبنية عليه لا على الحقيقة ، وهو أولى مما في الهداية من أن التسمية التي وقعت في القرآن مجازية لا حقيقية ; لأن اللحم منشؤه من الدم ، ولا دم في السمك لسكونه في الماء ، ولذا حل بلا ذكاة فإنه ينتقض بالألية تنعقد من الدم ، ولا يحنث بأكلها لمكان العرف ، وهي أنها لا تسمى لحما ، وأيضا يمنع أن اسم اللحم باعتبار الانعقاد من الدم لا باعتبار الالتحام ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة فركب كافرا أو لا يجلس على وتد فجلس على جبل أنه لا يحنث مع تسميتها في القرآن دابة ، وأوتادا ، وهذا كله إذا لم ينو أما إذا نواه [ ص: 348 ] فأكل سمكا طريا أو مالحا يحنث ، وفي المحيط ، وفي الأيمان يعتبر العرف في كل موضع حتى قالوا لو كان الحالف خوارزميا فأكل لحم السمك يحنث ; لأنهم يسمونه لحما ، ولو حلف لا يشتري خبزا فاشترى خبز الأرز لا يحنث إلا أن يكون بطبرستان . ا هـ .

( قوله : ولحم الخنزير والإنسان والكبد والكرش لحم ) ; لأن منشأ هذه الأشياء الدم فصارت لحما حقيقة فيحنث بأكلها في حلفه لا يأكل لحما ، وإن كان لحم الخنزير والآدمي حراما ; لأن اليمين قد تنعقد لمنع النفس عن الحرام كما لو حلف لا يزني أو لا يكذب تصح يمينه ، وكذا يدخل في العموم ألا ترى أنه لو حلف لا يشرب شرابا يدخل فيه الخمر حتى تلزمه الكفارة بشربها لكونها شرابا حقيقة ووجوب الكفارة في اليمين ليس لعينها بل لمعنى في غيرها ، وهو هتك حرمة اسم الله تعالى ، ولا يختلف ذلك بين أن تكون يمينه على الطاعة أو على المعصية وصحح الإمام العتابي أنه لا يحنث بأكل لحم الخنزير والآدمي ، وقال في الكافي ، وعليه الفتوى اعتبارا للعرف ، وهذا هو الحق ، وما في التبيين من أنه عرف عملي لا يصلح مقيدا للفظ بخلاف العرف اللفظي ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة لا يحنث بالركوب على الإنسان للعرف اللفظي ; لأن اللفظ عرفا لا يتناول إلا الكراع ، وإن كان في اللغة يتناوله ، ولو حلف لا يركب حيوانا يحنث بالركوب على الإنسان ; لأن اللفظ يتناول جميع الحيوانات والعرف العملي ، وهو أنه لا يركب عادة لا يصلح مقيدا . ا هـ .

فقد رده في فتح القدير بأنه غير صحيح لتصريح أهل الأصول بقولهم الحقيقة تترك بدلالة العادة إذ ليست العادة إلا عرفا عمليا ، ولم يجب عن الفرق بين الدابة والحيوان ، وهي واردة عليه إن سلمها ، وفي الخلاصة لو حلف لا يأكل لحما فأكل شيئا من البطون كالكبد والطحال يحنث في عرف أهل الكوفة ، وفي عرفنا لا يحنث ، وهكذا في المحيط والمجتبى ، ولا يخفى أنه لا يسمى لحما في عرف أهل مصر أيضا فعلم أن ما في المختصر مبني على عرف أهل الكوفة ، وأن ذلك يختلف باختلاف العرف ، وفي الخلاصة وغيرها لو حلف لا يأكل لحما حنث بأكل لحم الإبل والبقر والغنم والطيور مطبوخا كان أو مشويا أو قديدا كما ذكره في الأصل فهذا من محمد إشارة إلى أنه لا يحنث بالنيء ، وفي فتاوى أبي الليث عن أبي بكر الإسكاف أنه لا يحنث ، وهو الأظهر ، وعند الفقيه أبي الليث يحنث ، ولو حلف لا يأكل من هذا اللحم شيئا فأكل من مرقته لم يحنث إن لم يكن له نية المرقة . ا هـ .

وفي الظهيرية الأشبه أنه لا يحنث بأكل النيء ، وفي المحيط حلف لا يأكل لحم شاة فأكل لحم عنز يحنث ; لأن الشاة اسم جنس فيتناول الشاة أي الضأن وغيرها وذكر الفقيه أبو الليث في نوازله أنه لا يحنث سواء كان الحالف قرويا أو مصريا ، وعليه الفتوى ; لأنهم يفرقون بينهما عادة ، ولو حلف لا يأكل لحم بقرة لم يحنث بأكل لحم الجاموس ; لأنه ، وإن كان بقرا حتى يعد في نصاب البقر ، ولكن خرج من اليمين بتعارف الناس . ا هـ .

وفي الخانية والرأس والأكارع لحم في يمين الأكل ، وليس بلحم في يمين الشراء . ا هـ .

وفي البدائع حلف لا يأكل لحم دجاج فأكل لحم ديك حنث ; لأن الدجاج اسم للذكر والأنثى جميعا فأما الدجاجة فاسم للأنثى والديك اسم للذكر ، واسم الإبل يقع على الذكور والإناث ، وكذا اسم الجمل والبعير والجزور ، وهذه الأربعة تقع على البخاتي والعراب واسم البقر يقع على الأنثى والذكر كالشاة والغنم والنعجة اسم للأنثى والكبش للذكر والفرس لهما كالبغل والبغلة والحمار للذكر والحمارة والأتان للأنثى .

( قوله : وبشحم الظهر في شحما ) أي لو حلف لا يأكل شحما فأكل شحم الظهر لا يحنث فهو معطوف على قوله وبسمك ، وهذا عند الإمام ، وقالا يحنث لوجود خاصية الشحم فيه ، وهو الذوب بالنار ، وله أنه لحم حقيقة ألا ترى أنه ينشأ من الدم ويستعمل استعماله ويحصل به قوته ، ولهذا يحنث بأكله في اليمين على أكل اللحم إجماعا كما في المحيط ، ولا يحنث [ ص: 349 ] ببيعه في اليمين على بيع الشحم قال القاضي الإسبيجابي إن أريد بشحم الظهر شحم الكلية فقولهما أظهر ، وإن أريد به شحم اللحم فقوله أظهر . ا هـ .

وفي فتح القدير صحح غير واحد قول أبي حنيفة وذكر الطحاوي قول محمد مع أبي حنيفة ، وهو قول مالك والشافعي في الأصح ، وقيد بشحم الظهر ; لأنه يحنث بشحم البطن اتفاقا ، وذكر في الكافي أن الشحوم أربعة شحم البطن وشحم الظهر وشحم مختلط بالعظم وشحم على ظاهر الأمعاء واتفقوا على أنه يحنث بشحم البطن والثلاثة على الخلاف . ا هـ .

واليمين على شراء اللحم كهي على أكله كما في التبيين ، وفي فتح القدير ، وما في الكافي لا يخلو من نظر بل لا ينبغي خلاف في عدم الحنث بما على الأمعاء في العظم قال الإمام السرخسي إن أحدا لم يقل بأن مخ العظم شحم . ا هـ .

وكذا لا ينبغي خلاف في الحنث بما على الأمعاء ; لأنه لا يختلف في تسميته شحما . ا هـ .

وفسر في الهداية شحم الظهر بأنه اللحم السمين ، وأشار المصنف إلى أن المأمور بشراء اللحم إذا اشترى شحم الظهر لا يجوز على الآمر ، وهو مروي عن محمد ، وهو دليل للإمام أيضا كما في المحيط ( قوله : وبألية في شحما ، ولحما ) أي لا يحنث بأكل ألية لو حلف لا يأكل لحما أو حلف لا يأكل شحما ; لأنها نوع ثالث حتى لا تستعمل استعمال اللحوم والشحوم فلا يتناولها اللفظ معنى ، ولا عرفا ( قوله : وبالخبز في هذا البر ) أي لا يحنث بأكل الخبز في حلفه لا يأكل هذا البر فلا يحنث إلا بالقضم من عينها عند الإمام ، وقالا إن أكل من خبزها حنث أيضا ; لأنه مفهوم منه عرفا ولأبي حنيفة أن لها حقيقة مستعملة فإنها تغلى وتقلى وتؤكل قضما ، وهي قاضية على المجاز المتعارف كما هو الأصل عنده ، ولو قضمها حنث عندهما على الصحيح لعموم المجاز كما إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان ، وإليه الإشارة بقوله حنث في الخبز أيضا كذا في الهداية وصحح في الذخيرة عنهما أنه لا يحنث بأكل عينها .

وفي فتح القدير والمحيط إنما يحنث بأكل عينها عند الإمام إذا لم تكن نيئة بأن كانت مقلية كالبليلة في عرفنا أما إذا قضمها نيئة لم يحنث ; لأنه غير مستعمل أصلا .

وأشار المصنف إلى أنه لو أكل من دقيقها أو سويقها فإنه لا يحنث بالأولى عند الإمام ، وأما عندهما فقالوا لو أكل من سويقها حنث عند محمد خلافا لأبي يوسف فيحتاج أبو يوسف إلى الفرق بين الخبز والسويق والفرق أن الحنطة إذا ذكرت مقرونة بالأكل يراد بها الخبز دون السويق ومحمد اعتبر عموم المجاز .

وأطلقه المصنف فشمل ما إذا نوى عينها أو لم تكن له نية كما في البدائع ، ولا يخفى أنه إذا نوى أكل الخبز فإنه يصدق ; لأنه شدد على نفسه ، وقيد بكون الحنطة معينة ; لأنه لو حلف لا يأكل حنطة ينبغي أن يكون جوابه كجوابهما ذكره شيخ الإسلام ، ولا يخفى أنه تحكم والدليل المذكور المتفق على إيراده في جميع الكتب يعم المعينة والنكرة ، وهو أن عينها مأكول كذا في فتح القدير ، ولا فرق في الحكم بين أن يقول لا آكل من هذه الحنطة أو هذه الحنطة كما في البدائع .


[ ص: 347 - 348 ] ( قوله : لتصريح أهل الأصول بقولهم إلخ ) قال في النهر ، وفي بحث التخصيص من التحرير مسألة العادة العرف العملي مخصص عند الحنفية خلافا للشافعية كحرمة الطعام ، وعادتهم أكل البر انصرف إليه ، وهو الوجه أما بالعرف القولي فاتفاق كالدابة للحمار والدراهم على النقد الغالب ، وفي الحواشي السعدية أن العرف العملي يصلح مقيدا عند بعض مشايخ بلخ لما ذكر في كتب الأصول في مسألة إذا كانت الحقيقة مستعملة والمجاز متعارفا . ا هـ .

وهذه النقول تؤذن بأنه لا يحنث بركوب الآدمي في لا يركب حيوانا فإيراد الفرع على ما في الفتح كما في البحر غير وارد ; لأن العادة حيث كانت مخصصة انصرفت يمينه إلى ما يركب عادة فتدبر [ ص: 349 ] ( قوله : بل لا ينبغي خلاف في عدم الحنث بما على الأمعاء في العظم ) عبارة الفتح بما في العظم فقوله على الأمعاء لعله من زيادات النساخ ( قوله : وأشار المصنف إلى أن المأمور بشراء اللحم ) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها الشحم بدل اللحم ، وهي أظهر

.

التالي السابق


الخدمات العلمية