البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله : لا يشرب من دجلة على الكرع بخلاف ماء دجلة ) يعني لو حلف لا يشرب من دجلة فيمينه على الكرع ، وهو تناول الماء بالفم من موضعه نهرا أو إناء كما في المغرب فلا يحنث لو شرب بإناء أو بيده بخلاف ما لو حلف لا يشرب من ماء دجلة فإنه يحنث بالشرب من إناء أو غيره ; لأنه بعد الاغتراف بقي منسوبا إليه ، وهو الشرط ، وقالا هما سواء فيحنث بالشرب من إناء ; لأنه المتعارف المفهوم ، وله أن كلمة من للتبعيض وحقيقته في الكرع ، وهي مستعملة ، ولهذا يحنث بالكرع إجماعا فمنعت المصير إلى المجاز ، وإن كان متعارفا ، والتقييد بدجلة اتفاقي ; لأن الفرات والنيل كذلك بل ، وكل نهر ، وقيد بالنهر ; لأنه لو حلف لا يشرب من هذا البئر أو من هذا الجب فإنه يحنث بشربه بالإناء إجماعا ; لأنه لا يمكن فيه الكرع فتعين المجاز ، وإن كان يمكن الكرع فعلى الخلاف ، ولو تكلف وشرب بالكرع فيما لا يمكن الكرع لا يحنث ; لأن الحقيقة والمجاز لا يجتمعان .

وأشار المصنف إلى أنه لو شرب من نهر يأخذ من دجلة لا يحنث في المسألة الأولى لعدم الكرع في دجلة لحدوث النسبة إلى غيره ويحنث في الثانية ; لأن يمينه انعقدت على شرب ماء منسوب إليها ، وهي لم تنقطع بمثله ونظيره ما إذا حلف لا يشرب من ماء هذا الجب فحول إلى جب آخر فشرب منه حنث .

وفي البدائع لو حلف لا يشرب من ماء دجلة فهذا ، وقوله لا أشرب من دجلة سواء ; لأنه ذكر الشرب من النهر فكان على الاختلاف ، ولو حلف لا يشرب من نهر يجري ذلك النهر إلى دجلة فأخذ من دجلة من ذلك الماء فشربه لم يحنث ; لأنه قد صار من ماء دجلة لزوال الإضافة إلى النهر الأول بحصوله في دجلة ، ولو حلف لا يشرب من ماء المطر فمدت الدجلة من المطر فشرب لم يحنث ; لأنه إذا حصل في الدجلة انقطعت الإضافة إلى المطر فإن شرب من ماء واد سال من المطر لم يكن فيه ماء قبل ذلك أو جاء من ماء مطر مستنقع حنث ; لأنه لما لم يضف إلى نهر بقيت الإضافة إلى المطر كما كانت . ا هـ .

وفي الظهيرية لو حلف لا يشرب من الفرات لم يحنث ما لم يكرع عند أبي حنيفة ، وهي معروفة غير أنا ذكرناها لفائدة ، وهي أن تفسير الكرع عند أبي حنيفة أن يخوض الإنسان في الماء ويتناول الماء بفمه من موضعه ، ولا يكون الكرع إلا بعد الخوض في الماء فإنه من الكراع ، وهو من الإنسان ما دون الركبة ، ومن الدواب ما دون الكعب كذا قال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي . ا هـ .

وفي المحيط لو حلف لا يشرب من هذا الكوز فحقيقته أن يشرب منه كرعا حتى لو صب على كفه وشرب لا يحنث ، ولو نوى بقوله لا أشرب من الفرات ماء الفرات قيل تصح نيته ; لأنه نوى ما يحتمله لفظه [ ص: 357 ] ; لأن الشرب لا يتحقق بدون الماء فكان الماء مضمرا فيه ، وقيل لا تصح نيته ; لأنه نوى تعميم المقتضى فإن الماء غير ملفوظ به ، وإنما يثبت مقتضى ذكر الشرب والمقتضى لا عموم له فتكون نية التعميم فيه باطلة .

ولو حلف لا يشرب من ماء فرات أو ماء فراتا فشرب من ماء دجلة أو من ماء عذب حنث ; لأنه ذكر الفرات صفة للماء ; لأنه عبارة عن العذب قال تعالى { وأسقيناكم ماء فراتا } أي ماء عذبا بخلاف ماء الفرات ; لأنه أضافه إلى الفرات فقد أراد بالفرات نهر الفرات . ا هـ .

وفي المجتبى : ولجنس هذه المسائل أصل حسن ، وهو أنه متى عقد يمينه على شيء ليس له حقيقة مستعملة ، وله مجاز متعارف يحمل على المجاز إجماعا كما إذا حلف لا يأكل من هذه النخلة ، وإن كان له حقيقة متعارفة يحمل على الحقيقة إجماعا كمن حلف لا يأكل لحما ، وإن كان له حقيقة مستعملة ، ومجاز متعارف فعنده يحمل على الحقيقة ، وعندهما يحمل عليهما ، ولكن لا بطريق الجمع بين الحقيقة والمجاز ، ولكن بمجاز يعم أفرادهما ، وهو الأصح ويبتني عليه مسائل كثيرة منها ما مرت ، ومنها مسألة أكل الحنطة والدقيق . ا هـ . بلفظه .

فقد صحح قولهما في هذه المسائل ، وهو خلاف المنقول في الأصول عنهما فإنهم نقلوا أن عندهما المجاز المتعارف أولى من الحقيقة لا أنه يحمل عليهما . ثم اعلم أن الشرب أن يوصل إلى جوفه ما لا يتأتى فيه الهشم مثل الماء والنبيذ واللبن فإذا حلف لا يشرب هذا اللبن فأكله لا يحنث ، ولو شربه يحنث ، وأكل اللبن أن يثرد فيه الخبز ويؤكل وشربه أن يشرب كما هو ، ولو حلف لا يشرب هذا العسل فأكله كذلك لا يحنث ، ولو صب عليه ماء وشربه حنث ، ولو حلف لا يشرب مع فلان فإن شرب شرابا ، وفلان شرب شرابا من نوع آخر حنث ، ولو حلف لا يشرب شرابا ، ولا نية له فأي شراب شربه من ماء أو غيره يحنث إذ الشرب اسم لما يشرب ، وفي حيل المبسوط إذا حلف لا يشرب الشراب ، ولا نية له فهو على الخمر قال شمس الأئمة الحلواني فإذا في المسألة روايتان ، وفي فتاوى أهل سمرقند لا يحنث بشرب الماء ، وإذا حلف لا يشرب لبنا فصب الماء في اللبن فالأصل في هذه المسألة ، وأجناسها أن الحالف إذا عقد يمينه على مائع فاختلط ذلك المائع بمائع آخر من خلاف جنسه إن كانت الغلبة للمحلوف عليه يحنث ، وإن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه لا يحنث ، وإن كانا سواء القياس أن يحنث ، وفي الاستحسان لا يحنث فسر أبو يوسف الغلبة فقال إن كان يستبين لون المحلوف عليه ويوجد طعمه ، وقال محمد تعتبر الغلبة من حيث الأجزاء هذا إذا اختلط الجنس بغير الجنس .

أما إذا اختلط الجنس بالجنس كاللبن يختلط بلبن آخر فعند أبي يوسف هذا والأول سواء يعني يعتبر الغالب غير أن الغلبة من حيث اللون والطعم لا يمكن اعتبارها هنا فيعتبر بالقدر ، وعند محمد يحنث هاهنا بكل حال ; لأن الجنس لا يستهلك الجنس قالوا هذا الاختلاف فيما يمتزج ويختلط أما ما لا يمتزج ، ولا يختلط كالدهن ، وكان الحلف على الدهن يحنث بالاتفاق كذا في الظهيرية .


( قوله : وفي البدائع حلف لا يشرب إلى قوله فكان على الاختلاف ) قال الرملي فيه إثبات الخلاف بين الإمام وصاحبيه في الصورتين ، وفيما قاله صاحب الكنز ، وكثير من أصحاب المتون إثبات الخلاف في الأولى فقط . ا هـ .

قلت : وهذا بناء على ما في بعض النسخ ، وهو لا يشرب من ماء دجلة ، وفي بعضها لا يشرب ماء [ ص: 357 ] من دجلة بدخول من على دجلة لا على ماء ، وهذه ظاهرة ، وليست هذه هي المذكورة متنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية