قدمنا في الطهارة أن المشروعات أربعة : حقوق الله تعالى خالصة وحقوق العباد خالصة وما اجتمعا وغلب حق الله تعالى وما اجتمعا وغلب حق العبد وقدم الأول ; لأنه المقصود من خلق الثقلين ، ثم شرع في المعاملات فبدأ بالنكاح وما يتبعه لما فيه من معنى العبادة ، وذكر العتاق لمناسبة الطلاق في الإسقاط ، ثم الأيمان لمناسبتها لكليهما ، ثم الحدود لمناسبتها لليمين من جهة الكفارة ، فإنها دائرة بين العبادة والعقوبة والحدود عقوبات ، ثم ذكر السير بعدها للاشتراك في المقصود وهو إخلاء العالم عن الفساد وقدم الأول ; لأنه معاملة مع المسلمين . والثاني مع الكفار ، ثم اللقيط للاشتراك في كون النفوس عرضة للفوات ، ثم اللقطة للاشتراك في كون الأموال كذلك ، وكذا في الإباق والمفقود ، ثم ذكر الشركة ; لأن المال لما كان فيها أمانة في يد الشريك كان بعرضية التوى ، ثم الوقف بعدها [ ص: 277 ] للاشتراك في استيفاء الأصل مع الانتفاع بالزيادة ، ثم البيوع ; لأن الوقف إزالة الملك لا إلى مالك وفي البيوع إليه فكان الوقف بمنزلة البسيط والبيع كالمركب والكلام فيه يقع في عشرة مواضع : الأول في معناه لغة وشريعة فالمقصود مقابلة شيء بشيء سواء كان مالا أو لا ، ولذا قال تعالى { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } كما في المحيط ، وقال في المصباح باعه يبيعه بيعا ومبيعا فهو بائع وبيع والبيع من الأضداد مثل الشراء ويطلق على كل واحد من المتعاقدين أنه بائع لكن إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل السلعة ويطلق البيع على المبيع فيقال بيع جيد ويجمع على بيوع وأبعته بالألف لغة قال nindex.php?page=showalam&ids=12854ابن القطاع وبعت زيدا الدار يتعدى إلى مفعولين وقد تدخل من على المفعول الأول على وجه التأكيد فيقال بعت من زيد الدار وربما دخلت اللام مكان من فيقال بعتك الشيء وبعت لك فهي زائدة وابتاع زيد الدار بمعنى اشتراها وباع عليه القاضي أي من غير رضاه وفي الحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=109572لا يبع أحدكم } أي لا يشتري ; لأن النهي فيه على المشتري لا على البائع بدليل رواية nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري { nindex.php?page=hadith&LINKID=109573لا يبتاع أحدكم } ويريد يحرم سوم الرجل على سوم أخيه والأصل في البيع مبادلة مال بمال لقولهم بيع رابح وبيع خاسر وذلك حقيقة في وصف الأعيان لكنه أطلق على العقد مجازا ; لأنه سبب التمليك والتملك وقولهم صح البيع أو بطل أي صيغته لكنه لما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو مذكر أسند الفعل إليه ا هـ .
وفي القاموس باعه يبيعه بيعا أو مبيعا والقياس مباعا إذا باعه ، وإذا اشتراه ضد وهو مبيع ومبيوع وبيع الشيء قد تضم باؤه فيقال بوع ا هـ .
وفي الشريعة ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى بقوله ( هو مبادلة المال بالمال بالتراضي ) من استبدلت الثوب بغيره أو بدلت الثوب بغيره أبدله من باب قتل ، كذا في المصباح وفي المعراج ما يدل على أنها بمعنى التمليك ; لأن بعضهم زاد على جهة التمليك ، فقال فيه لا حاجة إليه ; لأن المبادلة تدل عليه والمال في اللغة ما ملكته من شيء والجمع أموال ، كذا في القاموس وفي الكشف الكبير المال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة والمالية إنما ثبت بتمول الناس كافة أو بتقوم البعض والتقوم يثبت بها وبإباحة الانتفاع له شرعا فما يكون مباح الانتفاع بدون تمول الناس لا يكون مالا كحبة حنطة وما يكون مالا بين الناس ولا يكون مباح الانتفاع لا يكون متقوما كالخمر ، وإذا عدم الأمر إن لم يثبت واحد منهما كالدم . ا هـ .
وصرح في المحيط بأن الخمر ليس بمال وأن العقد عليه لم ينعقد بخلاف ما لو باع شيئا بخمر ، فإنه ينعقد في ذلك الشيء بالقيمة وسيأتي بيانه إن شاء الله وفي الحاوي القدسي . المال اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار والعبد ، وإن كان فيه معنى المالية ولكنه ليس بمال حقيقة حتى لا يجوز قتله وإهلاكه . ا هـ .
وفي شرح الوقاية لم يقل على سبيل التراضي ليشمل ما لا يكون بتراض كبيع المكره ، فإنه ينعقد ا هـ .
وأجاب عنه في شرح النقاية بأن من ذكره أراد تعريف البيع النافذ ومن تركه أراد تعريف البيع مطلقا نافذا كان أو غير نافذ وأقول : بيع المكره فاسد موقوف لا أنه موقوف فقط كبيع الفضولي كما يفهم من كلامه ، وقد [ ص: 278 ] عرفه فخر الإسلام بأنه في اللغة والشريعة المبادلة وزيد فيها التراضي ورده في فتح القدير بأنه إذا فقد الرضا لا يسمى في اللغة بيعا بل غصبا ، ولو أعطاه شيئا آخر مكانه وعرفه في البدائع بأنه مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه وذلك قد يكون بالقول ، وقد يكون بالفعل فالأول الإيجاب والقبول . والثاني التعاطي ا هـ .
وبهذا ظهر أنه لا منافاة بين قولهم أن معناه المبادلة وبين قولهم أن ركنه الإيجاب والقبول وما في المستصفى من أنه معنى شرعي يظهر أثره في المحل عند الإيجاب والقبول فرده في فتح القدير بأنه نفس حكمه وهو الملك ، فإنه القدرة على التصرف ابتداء إلا لمانع فخرج بالابتداء قدرة الوكيل والوصي والمتولي وبقولنا إلا لمانع المبيع المنقول قبل القبض ، فإن عدم القدرة على بيعه لمانع النهي وفي الحاوي الملك الاختصاص الحاجز وأنه حكم الاستيلاء ; لأنه به ثبت لا غير إذ المملوك لا يملك ; لأن اجتماع الملكين في محل واحد محال فلا بد وأن يكون المحل الذي ثبت الملك فيه خاليا عن الملك والخالي عن الملك هو المباح والمثبت للملك في المباح الاستيلاء لا غير . وهو طريق الملك في جميع الأموال ; لأن الأصل الإباحة فيها وبالبيع والهبة ونحوهما ينتقل الملك الحاصل بالاستيلاء إليه فمن شرط البيع شغل المبيع بالملك حالة البيع حتى لم يصح في مباح قبل الاستيلاء ، ومن شرط الاستيلاء خلو المحل عن الملك وقته وبالإرث والوصية تحصل الخلافة عن الميت حتى كأنه حي لا الانتقال حتى ملك الوراث الرد بالعيب دون المشتري فالأسباب ثلاثة مثبت للملك وهو الاستيلاء وناقل للملك وهو البيع ونحوه وخلافة وهو الميراث والوصية وما أريد لأجله حكم التصرف حكمة وثمرة فحكم البيع الملك وحكمته إطلاق الانتفاع والعقود تبطل إذا خلت عن الأحكام ولا تبطل بخلوها عن الحكم ا هـ .
ومما ظهرت فيه فائدة الخلافة جواز إقالة الوارث والموصى له ، ومنها الخصومة في إثبات الدين كما في دعوى البزازية وعرفه في الإيضاح بأنه عقد متضمن مبادلة مال بمال ولا حاجة إلى زيادته شرعا لما سمعت من أن المبادلة تكون بالقول وبالفعل ، وإنما زاد لما قدمناه عن المصباح أن المبادلة حقيقة للأعيان وللعقد مجاز ، ثم اعلم أن البيع ، وإن كان مبناه على البدلين لكن الأصل فيه المبيع دون الثمن ، ولذا تشترط القدرة على المبيع دون الثمن وينفسخ بهلاك المبيع دون الثمن .
( كتاب البيع ) .
[ ص: 277 ] ( قوله لا يكون متقوما كالخمر ) قال الرملي ربما يفيد عدم جواز بيع الحشيشة ; لأنها ، وإن كانت مالا لكن لا يباح في الشرع الانتفاع بها وبه أفتى مولانا صاحب البحر ا هـ .
غزي وأقول : لا نسلم عدم جواز الانتفاع بها لغير الأكل لكونها طاهرة بخلاف الخمر لكونها نجسة فتأمل ا هـ .
( قوله وصرح في المحيط بأن الخمر ليس بمال إلخ ) الظاهر أنه أراد بالمال المتقوم وإلا فلو لم تكن مالا لزم أن لا ينعقد البيع بجعلها ثمنا مع أنه ينعقد فاسدا وفي التلويح في فصل النهي أن البيع بالخمر فاسد ; لأن الخمر جعلت ثمنا وهو غير مقصود بل وسيلة إلى المقصود إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان ، ولهذا اشترط وجود المبيع دون الثمن فبهذا الاعتبار صار الثمن من جملة الشروط بمنزلة آلات الصناع فيفسد البيع لكون أحد البدلين غير متقوم إذ المتقوم ما يجب إبقاؤه بعينه أو بمثله أو بقيمته والخمر واجب اجتنابها بالنص لعدم تقومها لكنها تصلح للثمن ; لأنها مال ; لأن المال ما يميل إليه الطبع ويدخر لوقت الحاجة أو ما خلق لمصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة ا هـ .
( قوله وأقول : بيع المكره فاسد موقوف إلخ ) قال الرملي سيأتي قريبا أن تفسير الموقوف عندنا الذي لا حكم له ظاهر أو أقول : كيف يكون موقوفا مع فساده والموقوف من قبيل الصحيح إلا أنه لم ينفذ كما لا يخفى ، وقد صرح هو بنفسه أن الموقوف من قسم الصحيح أو هو قسم بنفسه وليس هو من قسم الفاسد هكذا وجدت مكتوبا على نسخة بعض أهل الفضل والذي يظهر أن الموقوف على قسمين : فاسد وصحيح فليتأمل ا هـ .
قلت : سيذكر المؤلف [ ص: 278 ] في أول باب البيع الفاسد أن للمشايخ طريقين فمنهم من يدخل الموقوف تحت الصحيح فهو قسم منه وهو الحق لصدق التعريف وحكمه عليه ، فإنه ما أفاد الملك من غير توقف على القبض ولا يضر توقفه على الإجازة كتوقف البيع الذي فيه الخيار على إسقاطه ، ومنهم من جعله قسما للصحيح وعليه مشى الشارح الزيلعي ، فإنه قسمه إلى صحيح وباطل وفاسد وموقوف ا هـ .
ولا يمكن جعل بيع المكره موقوفا بالمعنى الأول لما يأتي متنا في كتاب الإكراه أنه يخير بين أن يمضي البيع أو يفسخ وأنه يثبت به الملك عند القبض للفساد ففيه التصريح بكونه فاسدا نعم يخالف بقية العقود الفاسدة في صور أربعة مذكورة في إكراه التنوير ، وقد أفاد في المنار وشرحه أنه ينعقد فاسدا لعدم الرضا الذي هو شرط النفاذ وأنه بالإجازة يصح ويزول الفساد وحينئذ فالموقوف على الإجازة صحته فصح كونه فاسدا موقوفا وظهر كون الموقوف منه فاسدا ، ومنه صحيح ( قوله ورده في فتح القدير إلخ ) حاصله أن التراضي ليس خاصا بمفهومه الشرعي كما يفيده قول فخر الإسلام وزيد فيها أي في الشريعة التراضي بل هو مأخوذ في مفهومه اللغوي أيضا ( قوله ولا حاجة إلى زيادته شرعا ) أي إلى زيادة قوله عقد