البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
قوله ( ويقضي في المسجد أو داره ) ; لأنه صلى الله عليه وسلم { حكم بين المتلاعنين في المسجد } { ، وقال للمديون قم فاقضه بعد أمر الدائن بوضع الشطر ، وكانا في المسجد وقد ارتفعت أصواتهما } { وأمر بإقامة الحد وهو في المسجد } ، وقد لاعن عمر رضي الله عنه عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري ، وأما كون المشرك يدخله للقضاء وهو نجس فلا يمنع ; لأن نجاسته نجاسة الاعتقاد على معنى التشبيه ، وأما الحائض فتخبر بحالها ليخرج إليها القاضي أو يرسل نائبه كما إذا كانت الدعوى في دابة ، وكذا السلطان يجلس في المسجد للحكم أطلق المسجد فشمل غير الجامع لكنه أولى ; لأنه أشهر ثم الذي تقام فيه الجماعات وإن لم تصل فيه الجمعة .

قال فخر الإسلام هذا إذا كان الجامع في وسط البلد أما إذا كان في طرف منها فلا لزيادة المشقة فالأولى أن يختار مسجدا في وسط البلد وفي السوق ، ويجوز أن يحكم في بيته وحيث كان إلا أن الأولى ما ذكرناه ، ويأذن للناس على العموم ولا يمنع أحدا ; لأن لكل أحد حقا في مجلسه ، والأولى أن يكون بيته في وسط البلد لما ذكرناه .

والحاصل أنه يجلس له في أشهر الأماكن ومجامع الناس ، وليس فيه حاجب ولا بواب ، وهو الأفضل ولا يحكم ، وهو ماش ولا راكب ولا بأس بالعقود على الطريق إذا كان لا يضيق على المارة ولا بأس بالحكم وهو [ ص: 303 ] متكئ والقضاء وهو مستو أفضل تعظيما لأمر القضاء ، ولا يجلس وحده ; لأنه يورث التهمة فينبغي أن يجالسه من كان يجلس معه قبل ذلك ، وروي أن عثمان رضي الله عنه ما كان يحكم حتى يحضر أربعة من الصحابة ويستحب أن يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء ويشاورهم .

وكان أبو بكر يحضر عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم حتى قال أحمد يحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب ويشاورهم فيما يشكل عليه وفي المبسوط وإن دخله حصر في قعودهم عنده أو شغله عن شيء من أمور المسلمين جلس وحده فإن طباع الناس تختلف فمنهم من يمنعه من حشمة الفقهاء عن فصل القضاء ، ومنهم من يزداد قوة على ذلك فإن كان ممن يدخله حصر جلس وحده وفي المبسوط ما حاصله أنه ينبغي للقاضي أن يعتذر للمقضي عليه ويبين له وجه قضائه ، ويبين له أنه فهم حجته ولكن الحكم في الشرع كذا يقتضي القضاء عليه فلم يمكن غيره ليكون ذلك أدفع لشكايته للناس ونسبته إلى أنه جار عليه ، ومن يسمع يخل فربما تفسد العامة عرضه وهو بريء وإذا أمكن إقامة الحق مع عدم إيغار الصدور كان أولى كذا في فتح القدير وفي التتارخانية قال مشايخنا ينبغي للقاضي إذا أراد الحكم أن يقول للخصمين أحكم بينكما ، وهذا على وجه الاحتياط حتى إنه إذا كان في التقليد خلل يصير حكما بتحكيمهما وفي البزازية قضى القاضي بحق ثم أمره أن يسأل القضية ثانيا بمحضر من العلماء لا يفرض ذلك على القاضي ا هـ . وفيها وإن رأى أن يقعد معه أهل الفقه قعدوا ولا يشاورهم عند الخصوم ا هـ .

فعلى هذا إذا كانت عنده الفقهاء ووقعت الحادثة يخرج الخصوم أو يبعدهم ثم يشاور الفقهاء ، ولا يسلم ولا يسلم عليه إلا إذا كان الداخل الشاهد فله أن يسلم كما في الخانية ويصلي ركعتين تحية المسجد ، ويسند ظهره إلى المحراب ، والناس بين يديه يقفون مستقبلي القبلة فإن اعتراه هم أو غضب أو جوع أو حاجة حيوانية كف عنه حتى يزول ولا يتعب نفسه في طول الجلوس ولا يقضي وهو يدافع أحد الأخبثين ، وإن كان شابا قضى وطره من أهله ثم جلس للقضاء ولا يسمع من رجل حجتين أو أكثر في مجلس إلا أن يكون الناس قليلا ، ولا يقدم رجلا جاء غيره قبله ولا يضرب في المسجد حدا ولا تعزيرا كذا في البزازية .

والحاصل لا يقضي حال شغل قلبه ولو بفرح أو برد شديد أو حر شديد وأصله { لا يقضي القاضي وهو غضبان } معلول به ، ولا ينبغي أن يتطوع بالصوم في اليوم الذي يريد الجلوس فيه كذا في فتح القدير وفي الظهيرية ، ويخرج في أحسن ثيابه وأعدل أحواله وله أن يتخذ بوابا ليمنع الخصوم من الازدحام ولا يباح للبواب أن يأخذ شيئا على الإذن في الدخول وإذا أخذ البواب شيئا وعلم القاضي به فقضى كان كالقضاء بالرشوة لا ينفذ كذا في شرح أدب القضاء ، وإذا جلسوا بين يديه قال أبو يوسف يقول أيكما المدعي فإذا عرفه يقول له ماذا تدعي وقال محمد لا يفعل ذلك ، وقول أبي يوسف أرفق دفعا للمهابة عنهم ، وإذا جاء رجل أراد إحضار خصمه الغائب دفع له طينة عليها ختم القاضي مكتوب فيها أجب خصمك إلى مجلس الحكم فإن كان في المصر أحضره أو قريبا منه ، وإن كان بعيدا فالقاضي لا يعديه بمجرد قوله حتى يقيم البينة .

والفاصل بينهما أنه إن أمكنه أن يعود إلى أهله في ذلك اليوم فهو قريب ، وإلا فلا وقال محمد يجب على الإمام أن ينصب قضاة على الكور فيما دون مدة السفر احترازا عن مشقة الأعداء ، وهو إزالة العدوان ويسقط الأعداء بعذر المرض أو كانت مخدرة فإن توارى الخصم في بيته ختم القاضي على بيته ، وجعل بيته عليه سجنا وسد أعلاه وأسفله حتى يضيق عليه الأمر فيخرج قال الحلواني وأصحابنا لم يجوزوا الهجوم وصورته أن يبعث القاضي نساء يطلبنه في البيت وأعوانا يأخذون السفل [ ص: 304 ] والعلو كي لا يهرب وهذا هو القياس فعله عمر رضي الله عنه والصالحون من بعده وتركوا فيه القياس فإن كان المديون يسكن دارا بأجرة ، وامتنع من الحضور اختلفوا في تسمير الباب ، والأصح أنه يسمر والتسمير الضرب بالمسامير ا هـ .

فإن كانت الدار مشتركة فسمرها الحاكم لأجل أحد الشركاء للباقي أن يرفعوا الأمر إليه ليرفع المسامير ، وليس هذا من العدل كذا في التتارخانية وفيها للسلطان الختم على باب المديون ، وإن لم يتوار في بيته تضييقا عليه حتى يقضي الدين . ا هـ .

فعلى هذا له وضعه في الجاويش في زماننا ، وفي البزازية ويستعين بأعوان الوالي على الإحضار وأجرة الأشخاص في بيت المال وقيل على المتمرد في المصر من نصف درهم إلى درهم وفي الخارج لكل فرسخ ثلاثة دراهم أو أربعة وأجرة الموكل على المدعي ، وهو الأصح وفي الذخيرة أنه المشخص وهو المأمور بملازمة المدعى عليه ، وأطلق بعض المشايخ الذهاب إلى باب السلطان والاستعانة بأعوانه أولا لاستيفاء حقه قبل العجز عن الاستيفاء بالقاضي لكنه لا يفتى به إلا إذا عجز القاضي ، وإذا ثبت تمرده عن الحضور عاقبه بقدره ، وذكر الصدر الشهيد الاختلاف في قبول القاضي القصاص من الخصوم ، والمذهب عندنا أنه لا يأخذها إذا جلس للقضاء ، وإلا أخذها ثم ذكر الاختلاف في أن القاضي يؤاخذ بما كتب فيها ، والمذهب لا إلا إذا أقر بلفظه صريحا وفي السراج الوهاج وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا صالحا عفيفا ويقعده بحيث يراه أهلا للشهادة لا ذميا ولا عبدا ولا صبيا ولا ممن لا تجوز شهادته فيكتب الخصومة ويجعلها في قمطره ، ويجعل لكل شهر قمطرا .


[ ص: 303 ] ( قوله مع عدم إيغار الصدور ) قال في الصحاح الوغرة شدة توقد الحزن ومنه قيل في صدره وغر بالتسكين أي ضغن وعداوة وتوقد من الغيظ أبو السعود ( قوله ثم أمره ) أي السلطان ( قوله وله أن يتخذ بوابا ليمنع الخصوم من الازدحام ) قال الرملي ، وتقدم قريبا أنه يجلس في أشهر الأماكن ، والجامع ليس فيه حاجب ولا بواب وهو الأفضل ، ولكن الذي هو مخصوص بمنع الخصوم ( قوله لا يعديه ) قال الرملي أي لا يحضره من أعداه أي أحضره وتسمى مسائله مسائل العدوي ، وهو الاسم منه والإعداء مصدره ( قوله فإن توارى الخصم في بيته ختم القاضي على بابه ) قال الرملي بعد أن يكلف القاضي المدعي إلى إقامة البينة أنه في منزله كما صرح به في الخانية و التتارخانية نقلا عن المحيط ، ومحل ذلك أيضا إذا لم يكن له عذر كما صرح به علماء الشافعية وقواعدنا تقضي به أيضا فاعلم ذلك ولا تغتر بما يفعله بعض القضاة فإن محل السمر والختم إذا ثبت [ ص: 304 ] امتناع الخصم بلا عذر ولو كان عذرا يبيح ترك صلاة الجمعة تأمل .

( قوله وهذا هو القياس ) قال الرملي اسم الإشارة راجع إلى قوله وأصحابنا لم يجوزوا الهجوم تأمل . ( قوله وتركوا إلخ ) أي أصحاب نبينا ( قوله وأجرة الأشخاص في بيت المال ) قال في لسان الحكام وفي القنية وينبغي أن ينصب إنسانا حتى يقعد الناس بين يدي القاضي ويقيمهم ويقعد الشهود ويقيمهم ويزجر من يسيء الأدب ويسمى صاحب المجلس والجلواز أيضا ، وأنه يأخذ من المدعي شيئا ; لأنه يعمل له بإقعاد الشهود على الترتيب وغيره لكن لا يأخذ أكثر من درهمين وللوكلاء أن يأخذوا ممن يعملون له من المدعين والمدعى عليهم ولكن لا يأخذ لكل مجلس أكثر من درهمين والرجالة يأخذون أجورهم ممن يعملون له ، وهم المدعون لكنهم يأخذون في المصر نصف درهم إلى درهم ، وإذا خرجوا إلى الرساتيق لا يأخذون لكل فرسخ أكثر من ثلاثة دراهم أو أربعة هكذا ، وضعه العلماء الأتقياء الكبار وهي أجور أمثالهم وأجرة الكاتب على من يكتب له الكتابة وأجرة النواب على القاضي ، وإذا بعث أمينا للتعديل فالجعل على المدعي كالصحيفة . قال مجد الأئمة التركماني مؤنة الرجالة على المدعي في الابتداء فإذا امتنع فعلى المدعى عليه ، كان ذلك استحسانا مال إليه للزجر فإن القياس أن يكون على المدعي في الحالين المزكي يأخذ الأجر من المدعي ، كذا المبعوث للتعديل ا هـ . كلام القنية . ا هـ .

( قوله وإذا ثبت تمرده عن الحضور عاقبه بقدره ) قال الرملي هذا صريح في أنه لا بد فيه من البرهان فلا يقبل فيه قول المحضر ولا قول عدل واحد ولا النساء الخلص ولا يتصور تمرده إلا بعد الاجتماع مع المشخص كما يفهم جميعه من كلامهم فلو اختفى لا يثبت تمرده ، وفي شرح المختار ولو امتنع الخصم عن الحضور مجلس القضاء عزره بما يرى من ضرب أو سفع أو حبس أو تعبيس وجه على ما يراه ا هـ .

وفي البزازية فإن عرض الطينة وامتنع الخصم يقول له هل تعرفه أنه القاضي فإن قال نعم أشهد عليه فإن شهدا عند القاضي عاقبه على ذلك ، ويستعين بأعوان الوالي على الإحضار ا هـ وفي فتاوى قارئ الهداية إذا هرب الغريم من الرسول وعجز عنه القول قول الرسول في ذلك ، ولا ضمان عليه لكن إذا لم يعلم هروبه إلا بقوله يؤدب على التفريط له . ا هـ .

وموضوع السؤال في رجل ثبت عليه حق وخرج من عند القاضي بالترسيم مع رسول ليرضى خصمه بالدفع أو بالسجن .

( قوله ويجعلها في قمطره ) قال الرملي القمطر بكسر القاف وفتح الميم وسكون الطاء قال في القاموس القمطر كسجل والقمطري والقمطرة بالتشديد شاذ .

التالي السابق


الخدمات العلمية