البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
قال رحمه الله ( فإن صدقهما القاتل فالدية لهم أثلاثا ) أي صدقهما القاتل دون الولي المشهود عليه ; لأن تصديقه لهما إقرار لهما بثلثي الدية ويلزمه ; لأنهم كانوا يزعمون أن نصيب الولي المشهود عليه قد سقط بعفوه ، وهو ينكر فلا يقبل قولهم عليه فوجب عليه كل الدية وللمنكر ثلثها قال رحمه الله ( وإن كذبهما فلا شيء لهما ، وللآخر ثلث الدية ) أي إن كذبهما القاتل أيضا بعد أن كذبهما الولي المشهود عليه بالعفو فلا شيء للوليين الشاهدين ; لأن شهادتهما عليه إقرار ببطلان حقهما عليه في القصاص فصح إقرارهما في حق أنفسهما .

وإن ادعيا انقلابهما مالا فلا يصدقا في دعواهما إلا ببينة ، وللولي المشهود عليه ثلث الدية ; لأن شهادتهما عليه بالعفو ، وهو ينكر بمنزلة إقرارهما بالعفو فينقلب نصيبهما مالا ، وفي النهاية ، وإن كذبهما المشهود عليه يجب على القاتل دية كاملة بينهم أثلاثا فجعل الضمير فاعل كذبهما المشهود عليه لا القاتل قال الشارح : وإن صدقهما الولي المشهود عليه وحده دون القاتل ضمن القاتل ثلث الدية للولي المشهود عليه ; لأنه أقر له بذلك ، فإن قيل كيف له الثلث ، وهو قد أقر أنه لا يستحق على القاتل شيئا بدعواه العفو قلنا ارتد إقراره بتكذيب القاتل إياه فوجب له ثلث الدية عليه ، وفي الجامع الصغير كان هذا الثلث للشاهدين لا للمشهود عليه ، وهو الأصح ; لأن المشهود عليه يزعم أنه قد عفا أو لا شيء له وللشاهدين على القاتل ثلث الدية دينا في ذمته والذي في يده ، وهو ثلث الدية مال القاتل ، وهو من جنس حقهما فيصرف إليهما لإقراره لهما بذلك كمن قال لفلان علي ألف درهم فقال المقر له ليس ذلك لي ، وإنما هو لفلان ، فإنه يصرف إليه فكذا هنا ، وهذا كله استحسان والقياس أن لا يلزم القاتل شيء ; لأن ما ادعاه الشاهدان على القاتل لم يثبت لإنكاره وما أقر به القاتل للمشهود عليه قد بطل بإقراره بالعفو ; لكونه تكذيبا له .

وجوابه أن القائل بتكذيب الشاهدين قد أقر للمشهود عليه بثلث الدية لزعمه أن القصاص قد سقط بشهادتهما كما إذا عفا والمقر له لم يكذب القاتل حقيقة بل أضاف الوجوب إلى غيره فجعل الواجب للشاهدين ، وفي مثله لا يرتد الإقرار كمن قال لفلان علي كذا ، فقال المقر له ليس لي ولكنه لفلان على ما بينا قيد المؤلف بقوله ، ولو شهد اثنان ، وإن كان الحكم في الواحد كذلك ; لأنه إذا علم أن شهادة الاثنين باطلة علم ببطلان شهادة الواحد الفرد من باب أولى ولم يتعرض لما إذا شهدا معا أو متعاقبا ونحن نذكر ذلك ونذكر شهادة الفرد تتميما للفائدة قال في المبسوط له وليان اثنان فشهد أحدهما على صاحبه أنه عفا فهو على قسمين إما أن يشهد أحدهما على صاحبه بالعفو أو يشهد كل واحد منهما على صاحبه بالعفو أما القسم الأول فهو على خمسة أوجه إما أن يصدقه صاحبه ، والقاتل جميعا أو كذباه أو كذبه صاحبه وصدقه القاتل أو على عكسه أو سكتا جميعا ، فالعفو واقع في الفصول كلها ; لأن الشاهد متى أقر بعفو صاحبه ، فقد أقر بسقوط القصاص في نصيبه ، وإذا سقط يسقط في نصيب [ ص: 367 ] الآخر كما لو عفا الشاهد عن نصيبه ، وأما الدية إن تصادقا فللشاهد نصف الدية ; لأن الثابت بالتصادق والموافقة كالثابت بالمعاينة ، وإن كذباه فلا شيء للشاهد ، ويجب للآخر نصف الدية ; لأنه لما شهد بالعفو فقد أقر ببطلان حقه في القصاص فصح وادعى انقلاب نصيب نفسه مالا فلم يصدق ويحول نصيب الآخر مالا ; لأن تعذر استيفاء القصاص في نصيبه من جهة غيره ; لأن سقوط القصاص مضاف إلى شهادة بالعفو ، فكان بمنزلة العفو منه .

وإن كذبه صاحبه وصدقه القاتل ضمن الدية بينهما ; لأنه لما صدقه فقد أقر له بنصف الدية فلزمه وادعى بطلان حق المشهود عليه بالعفو فلم يصدق نصيب الساكت مالا ; لأن في زعم الشاهدين نصيبه تحول مالا بعفو صاحبه والقاتل صدقه فيه فوجب له نصف الدية على القاتل ، وفي نصيب صاحبه لم يسقط من جهته ; لأنه لم يثبت عفوه في حقه لتكذيبه ، وإنما سقط بإقرار الشاهد فينقلب نصيبه مالا ، وإن كذبه القاتل وصدقه صاحبه ضمن نصف الدية للمشهود عليه ولا يضمن للشاهد شيئا وقال زفر : لا شيء لهما ; لأن العفو ثبت في حقهما بتصادقهما ، ولم يثبت في حق القاتل لتكذيبه فسقط نصيب الشاهد ولم يجب لتكذيب نصف الدية فيبرأ القاتل ولنا أن القاتل لما أكذب الشاهد في الشهادة بالعفو ، فقد كذبه فيما ادعى عليه من نصف الدية وأقر للمشهود عليه بنصف الدية في ماله ; لأنه زعم أن نصيب المشهود عليه إنما سقط لمعنى جاء من قبل الشاهد لا من جهته ، فإنه أنكر عفو المشهود عليه والمشهود عليه لما صدق الشاهد في شهادته فقد أقر بذلك المال للشاهد والمقر له بالمال إذا قال للمقر ما أقررت به ليس لي ، وإنما هو لفلان كان المقر به لفلان كمن أقر بمائة لزيد فقال زيد : هي لعمرو صارت المائة لعمرو فكذا هذا .

وأما القسم الثاني لو شهد كل واحد منهما على صاحبه بالعفو فلا يخلو إما أن يشهدا معا أو متعاقبا ، فإن شهدا معا إن كذبهما القاتل بطل حقهما ; لأن كل واحد منهما أقر بسقوط القصاص في نصيبه نصف الدية ، وأنه وجب له على القاتل ; لأن كل واحد منهما زعم أن حق العافي في القصاص قد سقط ، وانقلب نصيبه مالا ، فصح إقرارهما بسقوط القصاص ; لأنهما لا يتهمان في حقهما ولم يصح بالمال على القاتل ; لأنه دعوى والدعوى لا تثبت إلا بحجة ، وكذلك إن صدقهما القاتل ; لأنه متى صدق أحدهما في دعواه ، فقد كذب الآخر في دعواه من المال ; لأن العافي لا يجب له شيء ، فقد تعارض التصديق والتكذيب بالشك ، فصار كأنه سكت ، وإن صدقهما على التعاقب فلهما دية كاملة ; لأنه لما صدق الأول في دعواه المال فقد كذب الثاني في دعواه المال فإذا صدق الثاني بعد ذلك فقد صدقه بعدما كذبه والتصديق بعد التكذيب جائز وبتصديق الثاني إن صار مكذبا فيما ادعاه إلا أنه كذبه بعدما نفذ حكم التصديق بالسكوت عليه ، وكان التكذيب منه رجوعا عن إقراره ، فلم يصح ، وأما إذا شهد متعاقبا ، فإن كذبهما القاتل ، فللشاهد آخرا نصف الدية ولا شيء للأول ; لأن القاتل لما كذب الأول فقد زعم أن للثاني نصف الدية ولم يثبت عفوه ولم يوجد منه تكذيب القاتل في إقراره فوجب له نصف الدية والأول قد أقر بسقوط القصاص في نصيبه بنصف دية وجبت له على القاتل وقد كذبه القاتل في ذلك فلم يثبت وكذبه إن صدقهما معا فلا شيء للأول .

وللثاني نصف الدية ; لأنه تعارض التصديق والتكذيب منه في حق كل واحد منهما فتساقطا فصار كأنه سكت ، ولو سكت يجب للثاني نصف الدية ولا يبطل بتكذيب القاتل ; لأن تكذيب القاتل باطل في حق الثاني ، وإن صدقه الثاني وكذبه الأول فللثاني نصف الدية ولا شيء للأول ; لأنه ثبت عفو الأول في حق القاتل بتصديق الثاني في شهادته ولم يثبت عفو الثاني بتكذيب الأول في شهادته ، ولو عفا أحد الوليين وعلم الآخر أن القتل حرام عليه فقتل عليه القصاص وله نصف الدية في مال القاتل ; لأن قتله تمحض حراما ، وإن لم يعلم بالحرمة فعليه الدية في ماله علم بالعفو أو لم يعلم ; لأنه اشتبه عليه ; لأن ظنه استند إلى دليل يوجب الاشتباه ، وهو القياس على سائر الحقوق المشتركة بين اثنين إذا أبرأ أحدهما لا يبطل حق الآخر فكانت ظنا في موضع الاشتباه فأورث شبهة لسقوط القصاص ; ولهذا اشتبه على عمر رضي الله عنه مع جلالة قدره في العلم حيث شاور ابن مسعود في ذلك على ما ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية