وذكر بقية الحديث في آخر من يدخل الجنة، وقد خرجه بتمامه - أيضا - في " كتاب التوحيد "، ويأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى - فإن هذا القدر من الحديث فيه هاهنا كفاية.
فأما ما يتعلق برؤية الله عز وجل يوم القيامة من أول الحديث، فقد سبق الكلام على ألفاظه ومعانيه في " مواقيت الصلاة " في " باب: فضل صلاة العصر "، وفي " باب: فضل صلاة الفجر "، فلا حاجة إلى إعادتها هاهنا.
وفي الحديث: دليل على أن المشركين الذين كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله آلهة يتبعون آلهتهم التي كانوا يعبدون يوم القيامة، فيردونهم النار، كما قال تعالى في حق فرعون: يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ويبقى من كان يعبد الله وحده ظاهرا، مؤمنا كان أو منافقا، فهؤلاء ينظرون من كانوا يعبدونه في الدنيا، وهو الله وحده لا شريك له.
ففي هذا الحديث: أن الله يأتيهم أول مرة فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في المرة الثانية فيعرفونه.
وفي الحديث السابق اختصار، وقد ساقه في مواضع أخر بتمامه.
[ ص: 97 ] ولم يتأول الصحابة ولا التابعون شيئا من ذلك، ولا أخرجوه عن مدلوله، بل روي عنهم ما يدل على تقريره والإيمان به وإمراره كما جاء.
وقد روي عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، أنه قال في مجيئه: هو مجيء أمره.
وهذا مما تفرد به nindex.php?page=showalam&ids=15772حنبل عنه.
فمن أصحابنا من قال: وهم nindex.php?page=showalam&ids=15772حنبل فيما روى، وهو خلاف مذهبه المعروف المتواتر عنه.
وكان nindex.php?page=showalam&ids=14242أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان بما تفرد به nindex.php?page=showalam&ids=15772حنبل ، عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد رواية.
ومن متأخريهم من قال: هو رواية عنه، بتأويل كل ما كان من جنس المجيء والإتيان ونحوهما.
ومنهم من قال: إنما قال ذلك إلزاما لمن ناظره في القرآن، فإنهم استدلوا على خلقه بمجيء القرآن، فقال: إنما يجيء ثوابه، كقوله: وجاء ربك أي: كما تقولون أنتم في مجيء الله، أنه مجيء أمره.
وهذا أصح المسالك في هذا المروي.
وأصحابنا في هذا على ثلاث فرق:
فمنهم من يثبت المجيء والإتيان، ويصرح بلوازم ذلك في المخلوقات، وربما ذكروه عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد من وجوه لا تصح أسانيدها عنه.
ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره.
ومنهم من يقر ذلك، ويمره كما جاء، ولا يفسره، ويقول: هو مجيء وإتيان يليق بجلال الله وعظمته سبحانه.
وهذا هو الصحيح عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ، ومن قبله من السلف، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق وغيره من الأئمة.
وكان السلف ينسبون تأويل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة إلى الجهمية ؛ [ ص: 98 ] لأن جهما وأصحابه أول من اشتهر عنهم أن الله تعالى منزه عما دلت عليه هذه النصوص بأدلة العقول التي سموها أدلة قطعية هي المحكمات، وجعلوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهات، فعرضوا ما فيها على تلك الخيالات، فقبلوا ما دلت على ثبوته بزعمهم، وردوا ما دلت على نفيه بزعمهم، ووافقهم على ذلك سائر طوائف أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم.
وزعموا أن ظاهر ما يدل عليه الكتاب والسنة تشبيه وتجسيم وضلال، واشتقوا من ذلك لمن آمن بما أنزل الله على رسوله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي افتراء على الله، ينفرون بها عن الإيمان بالله ورسوله.
وزعموا أن ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك - مع كثرته وانتشاره - من باب التوسع والتجوز، وأنه يحمل على مجازات اللغة المستبعدة، وهذا من أعظم أبواب القدح في الشريعة المحكمة المطهرة، وهو من جنس حمل الباطنية نصوص الإخبار عن الغيوب كالمعاد والجنة والنار على التوسع والمجاز دون الحقيقة، وحملهم نصوص الأمر والنهي على مثل ذلك، وهذا كله مروق عن دين الإسلام.
ولم ينه علماء السلف الصالح وأئمة الإسلام nindex.php?page=showalam&ids=13790كالشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد وغيرهما عن الكلام وحذروا عنه، إلا خوفا من الوقوع في مثل ذلك، ولو علم هؤلاء الأئمة أن حمل النصوص على ظاهرها كفر لوجب عليهم تبيين ذلك وتحذير الأمة منه؛ فإن ذلك من تمام نصيحة المسلمين، فكيف كانوا ينصحون الأمة فيما يتعلق بالأحكام العملية ويدعون نصيحتهم فيما يتعلق بأصول الاعتقادات، هذا من أبطل الباطل.
قال nindex.php?page=showalam&ids=14510أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي : سمعت عبد الرحمن بن محمد [ ص: 99 ] ابن جابر السلمي يقول: سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه يقول: جاء رجل إلى nindex.php?page=showalam&ids=15215المزني يسأله عن شيء من الكلام، فقال: إني أكره هذا، بل أنهى عنه، كما نهى عنه nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ؛ فإني سمعت nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي يقول: سئل nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك عن الكلام والتوحيد، فقال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : محال أن يظن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، فالتوحيد ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم "، فما عصم الدم والمال فهو حقيقة التوحيد. انتهى.
وقد استوفينا الكلام على ذلك في أوائل " كتاب العلم " في الكلام على أول الواجبات.
وقد صح عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه أنكر على من استنكر شيئا من هذه النصوص، وزعم أن الله منزه عما تدل عليه: فروى nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق في " كتابه " عن nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16446ابن طاوس ، عن أبيه، قال: سمعت رجلا يحدث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بحديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : " تحاجت الجنة والنار "، وفيه: " فلا تمتلئ حتى يضع رجله " - أو قال: " قدمه - فيها ". قال: فقام رجل فانتفض، فقالnindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه .
وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق .
ولو كان لذلك عنده تأويل لذكره للناس ولم يسعه كتمانه.
وقد قابل هؤلاء المتكلمين طوائف آخرون، فتكلموا في تقرير هذه النصوص بأدلة عقلية، وردوا على النفاة، ووسعوا القول في ذلك، وبينوا أن [ ص: 100 ] لازم النفي التعطيل المحض.
وأما طريقة أئمة أهل الحديث وسلف الأمة: فهي الكف عن الكلام في ذلك من الطرفين، وإقرار النصوص وإمرارها كما جاءت، ونفي الكيفية عنها والتمثيل.
وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي في " الأعلام ": مذهب السلف في أحاديث الصفات: الإيمان، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها.
ومن قال: الظاهر منها غير مراد، قيل له: الظاهر ظاهران: ظاهر يليق بالمخلوقين ويختص بهم، فهو غير مراد، وظاهر يليق بذي الجلال والإكرام، فهو مراد، ونفيه تعطيل.
ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية ، الذي يحسن به الظن المتكلمون: إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام، فوقعوا في تشبيهه بالمعاني، والمعاني محدثة كالأجسام، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات.
وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يؤخذ من أدلة العقول، ولا يؤخذ مما جاء به الرسول.
وأما أهل العلم والإيمان، فيعلمون أن ذلك كله متلقى مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه، ولا عدول عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة ما ظاهره كفر أو تشبيه، أو مستحيل، بل كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، فإنه حق وصدق، يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته.
وما أشكل فهمه من ذلك، فإنه يقال فيه ما مدح الله الراسخين من أهل العلم، أنهم يقولون عند المتشابهات: آمنا به كل من عند ربنا
[ ص: 101 ] وما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في متشابه الكتاب، أنه يرد إلى عالمه، والله يقول الحق ويهدي السبيل.
وكلمة السلف وأئمة أهل الحديث متفقة على أن آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة كلها تمر كما جاءت، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل.
قال أبو هلال : سأل رجل nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن عن شيء من صفة الرب عز وجل، فقال: أمروها بلا مثال.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع : أدركت nindex.php?page=showalam&ids=12428إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعرا يحدثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئا.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي : سئل nindex.php?page=showalam&ids=17134مكحول nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري عن تفسير هذه الأحاديث، فقالا: أمرها على ما جاءت.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم : سألت nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالكا وسفيان وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة والقرآن، فقالوا: أمروها بلا كيف.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة : ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل.
وكلام السلف في مثل هذا كثير جدا.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12321أشهب : سمعت nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا يقول: إياكم وأهل البدع، فقيل: يا nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله : وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
خرجه nindex.php?page=showalam&ids=14510أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي في كتاب " ذم الكلام ".
وروى - أيضا - بأسانيده ذم الكلام وأهله عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة ، nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبي يوسف ، nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد ، nindex.php?page=showalam&ids=16349وابن مهدي ، nindex.php?page=showalam&ids=12074وأبي عبيد ، nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، nindex.php?page=showalam&ids=15215والمزني ، nindex.php?page=showalam&ids=13114وابن خزيمة .
وذكر nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة النهي عنه عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي [ ص: 102 ] nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة وصاحبيه nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16418وابن المبارك ويحيى بن يحيى ومحمد بن يحيى الذهلي .
وروى السلمي - أيضا - النهي عن الكلام وذمه عن الجنيد وإبراهيم الخواص .
فتبين بذلك أن النهي عن الكلام إجماع من جميع أئمة الدين من المتقدمين من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية ، وأنه قول nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=12074وأبي عبيد وغيرهم من أئمة المسلمين.
ومن جملة صفات الله التي نؤمن بها، وتمر كما جاءت عندهم: قوله تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا ونحو ذلك مما دل على إتيانه ومجيئه يوم القيامة.
وقد نص على ذلك nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق وغيرهما.
وعندهما: أن ذلك من أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بمشيئته واختياره.
وكذلك قاله nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض وغيره من مشايخ الصوفية أهل المعرفة.
وقد ذكر nindex.php?page=showalam&ids=15703حرب الكرماني أنه أدرك على هذا القول كل من أخذ عنه العلم في البلدان، وسمى منهم: nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=14171والحميدي وسعيد بن منصور .
وكذلك ذكره nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري في كتابه المسمى ب - الإبانة - وهو من أجل كتبه، وعليه يعتمد العلماء وينقلون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابوني وأبي القاسم ابن عساكر وغيرهم.
وقد شرحه القاضي nindex.php?page=showalam&ids=12604أبو بكر ابن الباقلاني .
وقد ذكر الأشعري في بعض كتبه أن طريقة المتكلمين في الاستدلال على قدم الصانع وحدوث العالم بالجواهر والأجسام والأعراض محرمة عند علماء المسلمين.
وقد روي ذم ذلك وإنكاره ونسبته إلى الفلاسفة عن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة .
[ ص: 103 ] وقال nindex.php?page=showalam&ids=13216ابن سريج : توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: الشهادتان، وتوحيد أهل الباطن من المسلمين: الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بإنكار ذلك.
خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12067أبو عبد الرحمن السلمي .
وكذلك ذكره nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي في رسالته في " الغنية عن الكلام وأهله ".
وهذا يدل على أن ما يؤخذ من كلامه في كثير من كتبه مما يخالف ذلك ويوافق طريقة المتكلمين فقد رجع عنه، فإن نفي كثير من الصفات إنما هو مبني على ثبوت هذه الطريقة.
قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي في هذه الرسالة في هذه الطريقة في إثبات الصانع: إنما هو شيء أخذه المتكلمون عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتو النبوات، فقد أغناهم الله عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يؤمن العنت على من ركبها، والإبداع والانقطاع على سالكها.
ثم ذكر أن الطريق الصحيحة في ذلك: الاستدلال بالصنعة على صانعها، كما تضمنه القرآن، وندب إلى الاستدلال به في مواضع، وبه تشهد الفطر السليمة المستقيمة.
ثم ذكر طريقتهم التي استدلوا بها، وما فيها من الاضطراب والفساد والتناقض والاختلاف.
ثم قال: فلا تشتغل - رحمك الله - بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم؛ فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه ويفارقه، فكل بكل معارض، وبعضهم ببعض مقابل.
[ ص: 104 ] قال: وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من الثبات والحذق في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم [...] تقودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق [...] جعلوه مبطلا، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يقوم به حق [...] به حجة.
وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين، كلاهما باطل، ويكون الحق في ثالث غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه، وإن كان مفسدا به قول خصمه؛ لأنهما مجتمعان معا في الخطأ، مشتركان فيه، كقول الشاعر:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا، وكل واهن مكسور
ومتى كان الأمر كذلك، فإن أحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي نصرها أصلا صحيحا، وإنما هو أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب، كما قال تعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فأخبر تعالى أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده، وهو من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة؛ لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل.
وذكر بقية الرسالة، وهي حسنة متضمنة لفوائد جليلة، وإنما ذكرنا هذا القدر منها ليتبين به أن القواعد العقلية التي يدعي أهلها أنها قطعيات لا تقبل الاحتمال، فترد لأجلها - بزعمهم - نصوص الكتاب والسنة، وتصرف عن [ ص: 105 ] مدلولاتها، إنما هي عند الراسخين شبهات جهليات، لا تساوي سماعها، ولا قراءتها، فضلا عن أن يرد لأجلها ما جاء عن الله ورسوله، أو يحرف شيء من ذلك عن مواضعه.
وإنما القطعيات ما جاء عن الله ورسوله من الآيات المحكمات البينات، والنصوص الواضحات، فترد إليها المتشابهات، وجميع كتب الله المنزلة متفقة على معنى واحد، وإن ما فيها محكمات ومتشابهات، فالراسخون في العلم يؤمنون بذلك كله، ويردون المتشابه إلى المحكم، ويكلون ما أشكل عليهم فهمه إلى عالمه، والذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويردون المحكم، ويتمسكون بالمتشابه ابتغاء الفتنة، ويحرفون المحكم عن مواضعه، ويعتمدون على شبهات وخيالات لا حقيقة لها، بل هي من وساوس الشيطان وخيالاته، يقذفها في القلوب.
فأهل العلم والإيمان يمتثلون في هذه الشبهات ما أمروا به من الاستعاذة بالله، والانتهاء عما ألقاه الشيطان، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك من علامات الإيمان، وغيرهم فيصغون إلى تلك الشبهات، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمة لها في نفسها، وليس لها معنى يصح، فيجعلون تلك الألفاظ محكمة لا تقبل التأويل، فيردون كلام الله ورسوله إليها، ويعرضونه عليها، ويحرفونه عن مواضعه لأجلها.
هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية والخوارج والروافض والمعتزلة ومن أشبههم، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين [ ص: 106 ] المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم في بعض الأشياء دون بعض.
وأما السلف وأئمة أهل الحديث، فعلى الطريقة الأولى، وهي الإيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أثبته له، مع نفي التمثيل والكيفية عنه، كما قاله ربيعة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك وغيرهما من أئمة الهدى في الاستواء، وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة أم المؤمنين، وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول، وكذلك القول في سائر الصفات، والله سبحانه وتعالى الموفق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يجوز بأمته " حتى يقطع الجسر بأمته، وروي: " يجيز "، وهما لغتان، يقال: جزت الوادي وأجزته، وهما بمعنى.
وعن nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي ، قال: أجزته: قطعته، وجزته: مشيت عليه.
وقوله: " منهم الموبق بعمله " أي: الهالك.
وقوله: " ومنهم المخردل "، هو بالدال المهملة والمعجمة: لغتان مشهورتان، والمعنى: المقطع، والمراد -والله أعلم-: أن منهم من يهلك فيقع في النار، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسر جهنم، ثم لا ينجو ولا يقع في النار.
وقيل: معناه أنه ينقطع عن النجاة واللحاق بالناجين.
والمقصود من تخريج الحديث بطوله في هذا الباب: أن أهل التوحيد لا تأكل النار منهم مواضع سجودهم، وذلك دليل على فضل السجود عند الله وعظمته، حيث حرم على النار أن تأكل مواضع سجود أهل التوحيد.
واستدل بذلك بعض من يقول: إن تارك الصلاة كافر؛ فإنه تأكله النار [ ص: 107 ] كله، فلا يبقى حاله حال عصاة الموحدين.
وهذا فيمن لم يصل لله صلاة قط ظاهر.
وقوله: " امتحشوا " أي: احترقوا، وضبطت هذه الكلمة بفتح التاء والحاء. وفي بعض النسخ بضم التاء وكسر الحاء.
و: " الحبة " - بكسر الحاء - قال nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : كل نبت له حب فاسم جميع ذلك الحب: الحبة.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء : الحبة: بذور البقل.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12795أبو عمرو : الحبة نبت ينبت في الحشيش صغار.
وقال الكسائي : الحبة بذر الرياحين، واحدتها حبة، وأما الحنطة فهو الحب لا غير - يعني: بالفتح.
و: " الحميل ": ما حمله السيل من كل شيء، فهو حميل بمعنى محمول، كقتيل بمعنى مقتول.
ويأتي الكلام على باقي الحديث في موضع آخر إن شاء الله تعالى.