وقد خرجه nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم ، وعنده في رواية : " فقد وجد طعم الإيمان " ، وجاء في رواية : " وجد طعم الإيمان وحلاوته " .
فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان ، فمن كملها فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه ; فالإيمان له حلاوة وطعم تذاق بالقلوب كما تذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم ; فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها .
وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته ، فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك ، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة ; لغلبة السقم عليه . فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من أسقامه وآفاته ، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذ ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان ، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي .
[ ص: 46 ] ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ; لأنه لو كمل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان ، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي .
سئل وهيب بن الورد : هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله ؟ قال : لا ، ولا من هم بالمعصية .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15874ذو النون : كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه ، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب .
فمن جمع هذه الخصال الثلاثة المذكورة في هذا الحديث فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه :
أحدها : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .
ومحبة الله تنشأ تارة من معرفته ، وكمال معرفته تحصل من معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة ، والتفكر في مصنوعاته وما فيها من الإتقان والحكم والعجائب ; فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته .
خرجه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي في بعض نسخ كتابه .
وقال بعض السلف : من عرف الله أحبه ، ومن أحبه أطاعه .
[ ص: 47 ] فإن المحبة تقتضي الطاعة كما قال بعض العارفين : المحبة الموافقة في جميع الأحوال ، ثم أنشد :
ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا
ومحبة الله على درجتين :
إحداهما : فرض ، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة ، والانتهاء عن زواجره المحرمة ، والصبر على مقدوراته المؤلمة . فهذا القدر لا بد منه في محبة الله ، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله ، كما قال بعض العارفين : من ادعى محبة الله ، ولم يحفظ حدوده - فهو كاذب .
فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات ، أو أخل بشيء من فعل الواجبات - فلتقصيره في محبة الله ، حيث قدم محبة نفسه وهواه على محبة الله ; فإن محبة الله لو كملت لمنعت من الوقوع فيما يكرهه .
والدرجة الثانية من المحبة ، وهي فضل مستحب - أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات ، والرضا بالأقضية المؤلمات .
[ ص: 48 ] كما قال عامر بن عبد قيس : أحببت الله حبا هون علي كل مصيبة ، ورضاني بكل بلية ، فما أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت ، ولا على ما أمسيت .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز : أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر ! ولما مات ولده الصالح قال : إن الله أحب قبضه ، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة تخالف محبة الله !
وقال بعض التابعين في مرضه : أحبه إلي أحبه إليه .
وأما محبة الرسول فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه ، وعظم ما جاء به . وينشأ ذلك في معرفة مرسله وعظمته كما سبق ; فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته ، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله ، كما قال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
ومحبة الرسول على درجتين أيضا :
إحداهما : فرض ، وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات ، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات ، وتصديقه فيما أخبر به من المخبرات والرضا بذلك . وأن لا يجد في نفسه حرجا مما جاء به ، ويسلم له تسليما ، وأن لا يتلقى الهدى من غير مشكاته ، ولا يطلب شيئا من الخير إلا ما جاء به .
الدرجة الثانية : فضل مندوب إليه ، وهي ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه ، والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه ، وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة في الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، وفي جوده وإيثاره وصفحه وحلمه واحتماله وتواضعه .
وفي أخلاقه الباطنة ، من كمال خشيته لله ومحبته له وشوقه إلى لقائه ، [ ص: 49 ] ورضاه بقضائه ، وتعلق قلبه به دائما ، وصدق الالتجاء إليه ، والتوكل والاعتماد عليه ، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها ، ودوام لهج القلب واللسان بذكره ، والأنس به والتنعم بالخلوة بمناجاته ودعائه ، وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر .
وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي من حديث معاذ بن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزاد nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في رواية " وأنكح لله " .
وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها ; لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله لله ، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله ، وموالاته له ومعاداته له ، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه .
[ ص: 51 ] وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال ، وكراهة ما يكرهه من ذلك ، وكذلك من الأشخاص . ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض ; فمن أحبه الله أكرمه وعامله بالعدل والفضل ، ومن أبغضه الله أهانه بالعدل .
وألقي nindex.php?page=showalam&ids=12150أبو مسلم الخولاني في النار على امتناعه أن يشهد للأسود بالنبوة ، [ ص: 53 ] فصارت عليه بردا وسلاما .
وعرض على nindex.php?page=showalam&ids=196عبد الله بن حذافة أن يتنصر فأبى ، فأمر ملك الروم بإلقائه في قدر عظيمة مملوءة ماء تغلي عليه ، فبكى وقال : لم أبك جزعا من الموت ، ولكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة يفعل بها هذا في الله ، لوددت أنه كان لي مكان كل شعرة مني نفسا يفعل بها ذلك في الله عز وجل !
هذا مع أن التقية في ذلك باللسان جائزة مع طمأنينة القلب بالإيمان كما قال تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن الأفضل الصبر وعدم التقية في ذلك .
سئل nindex.php?page=showalam&ids=15874ذو النون : متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15533بشر بن السري : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يبغضه حبيبك .
واعلم أن القدر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفر من ذلك ، ويتباعد منه جهده ، ويعزم على أن لا يلابس شيئا منه جهده ; لعلمه بسخط الله له وغضبه على أهله . فأما ميل الطبع إلى ما يميل من ذلك ، خصوصا لمن اعتاده ، ثم تاب منه - فلا يؤاخذ به إذا لم يقدر على إزالته ; ولهذا مدح الله من نهى النفس عن الهوى ، وذلك يدل على أن الهوى يميل [ ص: 54 ] إلى ما هو ممنوع منه ، وأن من عصى هواه كان محمودا عند الله عز وجل .
ويستشكل من هذا اللفظ أنه يقتضي وجود محبة الأمرين أعني : الإلقاء [ ص: 55 ] في النار والرجوع إلى الكفر ، وترجح محبة الأول على الثاني .
ووقع مثله في القرآن في قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ومثله قول nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه : إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه .
ويجاب عن ذلك بأن من خير بين أمرين مكروهين ، فاختار أحدهما على الآخر لشدة كراهته لما رغب عنه - فإنه يقال : إنه محب لما اختاره مريد له ، وإن كان لا يحبه ولا يختاره لنفسه ، بل لدفع ما هو عنده أشد كراهة وأعظم ضررا .
ومن هنا ورد ما ورد من حب الموت في الفتنة والتخلص منها .
وقيل لعطاء السليمي : لو أججت نار ، وقيل : من دخلها نجي من جهنم - هل كنت تدخلها ؟ فقال : بل كنت أخشى أن تخرج نفسي فرحا بها قبل وصولي إليها .
ويشبه هذا حال المكره على فعل بضرب أو سجن أو تهديد أو بقتل ونحو ذلك إذا فعله افتداء لنفسه مما أكره به عليه - هل هو مختار له ؟ أم لا ؟ وفيه اختلاف مشهور بين الأصوليين .
والتحقيق أنه مختار له لا لنفسه ، بل للافتداء به من المكروه الأعظم ، فهو مختار له من وجه دون وجه . وهذا بخلاف فعل المؤمن الطاعات خوفا من الله ، فإنه ليس فعله كفعل المكره ; لأن المؤمن يجب عليه أن يأتي بالطاعة خوفا من عقاب الله ورجاء لثوابه وحبا له ، فبذلك يفارق حال المكره .
ومن هذا الحديث الذي فيه أن الكافر يقول من شدة ما يجد في الموقف يوم القيامة : رب ، أرحني ولو إلى النار !
فظهر بهذا أن من خير بين مكروهين ، فاختار أخفهما دفعا لأعظمهما - أنه يكون محبا لما اختاره مختارا له من وجه دون وجه .
وأما ما يقتضيه لفظ الحديث من كونه محبا للآخر فهذا أولا غير لازم على قول الكوفيين الذين لا يرون أن " أفعل " التفضيل يلزم منه المشاركة مطلقا ، فيجوز عندهم أن يقال : الثلج أبرد من النار .
وأما على قول البصريين فإنه قد ورد في كثير من نصوص الكتاب والسنة ما تمتنع فيه المشاركة ، وتأولوا فيه " أفعل " بـ " فاعل " فكذلك تتأول هاهنا .
ومما بقي مما يتعلق بلفظ هذا الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم : " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " - يدل على أنه يجوز الجمع بين اسم الله واسم غيره من المخلوقين في كلمة واحدة .
[ ص: 57 ] وقال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود لما قضى في بروع : إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان من الخطإ .
وقد اختلف الناس في جواز مثل هذا التركيب في الكلام على أقوال :
أحدها : أنه يجوز .
والثاني : أنه لا يجوز إلا في كلام الله عز وجل دون غيره .
وقد قيل : إن قوله : " قل : ومن يعص الله ورسوله " - مدرجة في الحديث ، وإنما أنكر عليه وقفه على قوله : " ومن يعصهما " .
وقد ذكر هذا الاختلاف ابن عطية في " تفسيره " وغيره .
وفيه قول آخر : أنه يمتنع في واو الجمع أو ألف التثنية المتصلين بالأفعال نحو : يفعلون ، وتفعلان ، كقوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي وهذا هو الذي ذكره nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى في كتابه " أحكام القرآن " .
ومن منع ذلك أجاب بأن في الكلام حذفا تقديره : إن الله يصلي وملائكته يصلون ، والله تعالى أعلم .