فإن المراد بإحسانه في الإسلام فعل واجباته والانتهاء عن محرماته ، وبالإساءة في الإسلام ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية .
وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود هذا ، مع حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الذي علقه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري هنا في أول الباب - دليل على أن الإسلام إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه ، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها ; فإنه إذا أصر عليها في الإسلام لم يكن تائبا منها ، فلا تكفر عنه بدون التوبة منها .
وقد ذكر ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا كأبي بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره ، وهو قول طوائف من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم ، وهو اختيار nindex.php?page=showalam&ids=14164الحليمي .
ثم وجدته منصوصا عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، فنقل nindex.php?page=showalam&ids=15371الميموني في " مسائله " عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد قال : بلغني عن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة أنه كان يقول : لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في غير حديث : " إنه يؤاخذ " يعني حديث nindex.php?page=showalam&ids=16115شقيق عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، أراد " إذا أحسنت في الإسلام " . انتهى .
وكذلك حكى nindex.php?page=showalam&ids=14031الجوزجاني عن أهل الرأي أنهم قالوا : إن من أسلم وهو مصر على الكبائر كفر الإسلام كبائره كلها ، ثم أنكر ذلك عليهم وجعله من جملة أقوال المرجئة .
وخالف في ذلك آخرون ، وقالوا : بل يغفر له في الإسلام كل ما سبق منه في الجاهلية من كفر وذنوب وإن أصر عليها في الإسلام ، وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم كابن حامد والقاضي وغيرهما .
[ ص: 143 ] واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإسلام يهدم ما كان قبله " .
خرجه nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص .
وأجاب الأولون عنه بأن المراد أنه يهدم ما كان قبله مما ينافيه الإسلام من كفر وشرك ولواحق ذلك مما يكون الإسلام توبة منه وإقلاعا عنه ; جمعا بينه وبين الحديثين المتقدمين .
وأجاب الأولون بأن المراد : يغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه .
وتأول بعض أهل القول الثاني حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود على أن إساءته في الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر ، فيؤاخذ بكفره الأول والثاني .
ومنهم من حمله على إسلام المنافق ، وهذا بعيد جدا .
ومتى ارتد عن الإسلام ، أو كان منافقا - فلم يبق معه إسلام حتى يسيء فيه .
والاختلاف في هذه المسألة مبني على أصول :
أحدها : أن التوبة من ذنب تصح مع الإصرار على غيره ، وهذا قول جمهور أهل السنة والجماعة .
والخلاف فيه عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد لا يثبت ، وقد تأول ما روي عنه في ذلك المحققون من أصحابه كابن شاقلا والقاضي في كتاب " المعتمد " nindex.php?page=showalam&ids=17001وابن عقيل في " فصوله " .
وأما المعتزلة فخالفوا في ذلك ، وقال من قال منهم كالجبائي بناء على هذا : إن الكافر لا يصح إسلامه مع إصراره على كبيرة كان عليها في حال كفره .
[ ص: 144 ] وهذا قول باطل لم يوافقهم عليه أحد من العلماء .
الأصل الثاني : أن التوبة هل من شرط صحتها إصلاح العمل بعدها ؟ أم لا ؟ وفي ذلك اختلاف بين العلماء ، وقد ذكره ابن حامد من أصحابنا ، وأشار إلى بناء الخلاف في هذه المسألة على ذلك ، والصحيح عنده وعند كثير من العلماء أن ذلك ليس بشرط .
والأصل الثالث : أن بعض الذنوب قد يعفى عنها بشرط اجتناب غيرها ، فإن لم يحصل الشرط لم يحصل ما علق به .
وهذا مأخذ أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا ، وجعل من هذا الباب أن الصغائر إنما تكفر باجتناب الكبائر ، فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر .
وهذا فيه خلاف يذكر في موضع آخر إن شاء الله .
وجعل منه أن النظرة الأولى يعفى عنها بشرط عدم المعاودة ، فإن أعاد النظرة أخذ بالأولى والثانية .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي حديث nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك الذي علقه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري هنا ، وزاد في أوله " كتب الله كل حسنة كان أزلفها " .
ورجح هذا القول ابن بطال والقرطبي وغيرهما ، وهو مقتضى قول من قال : إنه يعاقب بما أصر عليه من سيئاته إذا أسلم كما سبق ، وحكي مثله عن nindex.php?page=showalam&ids=12352إبراهيم الحربي .
وخالف في ذلك طوائف من المتكلمين وغيرهم ، وقالوا : الأعمال في حال الكفر حابطة لا ثواب لها بكل حال ، وتأولوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة مستبعدة .
وكذلك من كان له عمل صالح ، فعمل سيئة أحبطته ثم تاب - فإنه يعود إليه ثواب ما حبط من عمله بالسيئات .
وقد ورد في هذا آثار عن السلف :
قال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : عبد الله رجل سبعين سنة ، ثم أصاب فاحشة - فأحبط الله عمله . ثم أصابته زمانة وأقعد ، فرأى رجلا يتصدق على مساكين ، فجاء إليه ، فأخذ منه رغيفا ، فتصدق به على مسكين - فغفر الله له ، ورد عليه عمل سبعين سنة .
خرجه nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك في كتاب " البر والصلة " .
بل عود العمل هاهنا بالتوبة أولى ; لأن العمل الأول كان مقبولا ، وإنما طرأ عليه ما يحبطه ، بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه .
ومن كان مسلما وعمل عملا صالحا في إسلامه ، ثم ارتد ، ثم عاد إلى الإسلام - ففي حبوط عمله الأول بالردة خلاف مشهور ، ولا يبعد أن يقال : إنه يعود إليه بإسلامه الثاني على تقدير حبوطه ، والله أعلم .
وقد وردت نصوص أخر تدل على أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه فإنه تبدل سيئاته في حال كفره حسنات ، وهذا أبلغ مما قبله ، وهو يدل على أن التائب من ذنب تبدل سيئاته قبل التوبة [ ص: 147 ] بالتوبة حسنات كما دلت عليه الآية في سورة الفرقان ، وفي ذلك كلام يطول ذكره هاهنا .
ولا يستبعد إثابة المسلم في الآخرة بما عمل قبل إسلامه من الحسنات ; فإنه لا بد أن يثاب عليها في الدنيا ، وفي إثابته عليها في الآخرة بتحقيق العذاب نزاع مشهور .
فإذا لم يكن بد من إثابته عليها فلا يستنكر أن يثاب عليها بعد إسلامه في الآخرة ; لأن المانع من إثابته عليها في الآخرة هو الكفر ، وقد زال .
فهذه الآية تدل على أن الكافر إذا أصيب بمصيبة في حال كفره ، ثم أسلم - فإنه يثاب على مصيبته ، فلأن يثاب على ما سلف منه من أعماله الصالحة أولى ; فإن المصائب يثاب على الصبر عليها والرضا بها .
وأما نفس المصيبة فقد قيل : إنه يثاب عليها ، وقيل : إنه لا يثاب عليها ، وإنما يكفر عنه ذنوبه ، وهذا هو المنقول عن كثير من الصحابة .
والمعنى الثاني مما يفسر به إحسان الإسلام أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها وأتمها بحيث يستحضر العامل في حال عمله قرب الله منه ، واطلاعه عليه ، فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه بقلبه .
[ ص: 148 ] وهذا هو الذي فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - به الإحسان في حديث سؤال جبريل عليه السلام .
وقد دل حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد وحديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة المذكوران على أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم من رواية عطية العوفي ، عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر قال : نزلت : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها في الأعراب ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، فما للمهاجرين ؟ قال : ما هو أكثر . ثم تلا قوله : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
وقد تأول بعض السلف من بني هاشم دخول آل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى لدخول أزواجه ، فكذلك من حسن إسلامه بتحقيق إيمانه وعمله الصالح ، فإنه يضاعف له أجر عمله بحسب حسن إسلامه وتحقيق إيمانه وتقواه ، والله أعلم .
[ ص: 149 ] وفي الحديث الصحيح " إن أهل التوراة عملوا إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، وعمل أهل الإنجيل إلى العصر على قيراط قيراط ، وعملتم أنتم من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين . فغضبت اليهود والنصارى ، وقالوا : ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا ؟ فقال الله : هل ظلمتكم من أجوركم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء .
وأما من أحسن عمله ، وأتقنه ، وعمله على الحضور والمراقبة - فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره وثوابه في هذا العمل بخصوصه على من عمل ذلك العمل بعينه على وجه السهو والغفلة .
ولهذا روي في حديث nindex.php?page=showalam&ids=56عمار المرفوع " إن الرجل ينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها ، إلا ثلثها ، إلا ربعها ، حتى بلغ العشر .
فليس ثواب من كتب له عشر عمله كثواب من كتب له نصفه ، ولا ثواب من كتب له نصف عمله كثواب من كتب له عمله كله ، والله أعلم .