صفحة جزء
[ ص: 177 ] فصل

قال البخاري :

36 - باب

خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر

وقال إبراهيم التيمي : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا .

وقال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول : إنه على إيمان جبريل وميكائيل .

ويذكر عن الحسن : ما خافه إلا مؤمن ، ولا أمنه إلا منافق .

وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة ; لقول الله تعالى : ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون


مراد البخاري بهذا الباب الرد على المرجئة القائلين بأن المؤمن يقطع لنفسه بكمال الإيمان ، وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل ، وأنه لا يخاف على نفسه النفاق العملي ما دام مؤمنا .

فذكر عن إبراهيم التيمي أنه قال : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا .

وهذا معروف عنه ، وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه ، ولفظه " ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كذابا " .

[ ص: 178 ] ومعناه أن المؤمن يصف الإيمان بقوله ، وعمله يقصر عن وصفه ، فيخشى على نفسه أن يكون عمله مكذبا لقوله .

كما روي عن حذيفة أنه قال : المنافق الذي يصف الإسلام ، ولا يعمل به .

وعن عمر قال : إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم ، قالوا : وكيف يكون المنافق عليما ؟ قال : يتكلم بالحكمة ، ويعمل بالجور أو قال بالمنكر .

وقال الجعد أبو عثمان : قلت لأبي رجاء العطاردي : هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخشون النفاق ؟ قال : نعم ، إني أدركت بحمد الله منهم صدرا حسنا ، نعم شديدا نعم شديدا ، وكان قد أدرك عمر .

وممن كان يتعوذ من النفاق ويتخوفه من الصحابة حذيفة ، وأبو الدرداء ، وأبو أيوب الأنصاري .

وأما التابعون فكثير ، قال ابن سيرين : ما علي شيء أخوف من هذه الآية ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين

وقال أيوب : كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي .

وقال معاوية بن قرة : كان عمر يخشاه وآمنه أنا ؟!

وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدا ، وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم .

قال زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان الثوري : خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث :

نقول : الإيمان قول وعمل ، وهم يقولون : الإيمان قول ولا عمل .

ونقول : الإيمان يزيد وينقص ، وهم يقولون : لا يزيد ولا ينقص .

ونحن نقول : النفاق ، وهم يقولون : لا نفاق .

وقال أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي : قد خاف عمر على نفسه [ ص: 179 ] النفاق ! قال : فقلت للأوزاعي : إنهم يقولون : إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حين سأل حذيفة ، لكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت ! قال : هذا قول أهل البدع .

وقال الإمام أحمد في رواية ابن هانئ ، وسئل : ما تقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه ؟ فقال : ومن يأمن على نفسه النفاق ؟

وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره من أن النفاق أصغر وأكبر ، فالنفاق الأصغر هو نفاق العمل ، وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم ، وهو باب النفاق الأكبر ، فيخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية ، كما قال تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة

والأثر الذي ذكره البخاري عن ابن أبي مليكة هو معروف عنه من رواية الصلت بن دينار ، عنه . وفي الصلت ضعف .

وفي بعض الروايات عنه عن ابن أبي مليكة قال : أدركت زيادة على خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما مات أحد منهم إلا وهو يخاف النفاق [ ص: 180 ] على نفسه .

وأما الأثر الذي ذكره عن الحسن فقال : ويذكر عن الحسن قال : ما خافه إلا مؤمن ، ولا أمنه إلا منافق - فهذا مشهور عن الحسن ، صحيح عنه .

والعجب من قوله في هذا : ويذكر ، وفي قوله في الذي قبله : وقال ابن أبي مليكة - جزما .

قال الإمام أحمد في كتاب " الإيمان " له : حدثنا مؤمل قال : سمعت حماد بن زيد قال : ثنا أيوب قال : سمعت الحسن يقول : والله ، ما أصبح على وجه الأرض مؤمن ، ولا أمسى على وجهها مؤمن - إلا وهو يخاف النفاق على نفسه ، وما أمن النفاق إلا منافق .

حدثنا روح بن عبادة قال : ثنا هشام قال : سمعت الحسن يقول : والله ، ما مضى مؤمن ولا بقي إلا يخاف النفاق ، ولا أمنه إلا منافق .

وروى جعفر الفريابي في كتاب " صفة المنافق " من حديث جعفر بن سليمان ، عن معلى بن زياد قال : سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو : ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن .

[ ص: 181 ] قال : وكان يقول : من لم يخف النفاق فهو منافق .

وعن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن قال : إن القوم لما رأوا هذا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم هم غير النفاق .

والروايات في هذا المعنى عن الحسن كثيرة .

وقول البخاري بعد ذلك : " وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة ; لقول الله تعالى : ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .

فمراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية ، وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة ، نعوذ بالله من ذلك ، كما يقال : إن المعاصي بريد الكفر .

وفي " مسند الإمام أحمد " من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ويل لأقماع القول ، ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ! "

وأقماع القول الذين آذانهم كالقمع يدخل فيه سماع الحق من جانب ، ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه .

وقد وصف الله أهل النار بالإصرار على الكبائر ، فقال : وكانوا يصرون على الحنث العظيم والمراد بالحنث الذنب الموقع في الحنث ، وهو الإثم .

وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون

[ ص: 182 ] قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى قال : ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن قال : ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا ، والله عز وجل يقول : لا ترفعوا أصواتكم إلى قوله : أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .

ومما يدل على هذا أيضا قول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى الآية ، وقال : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب الآية .

وفي " صحيح البخاري " أن عمر سأل الناس عنها ، فقالوا : الله أعلم ، فقال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل . قال عمر : لأي عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل . قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم يبعث الله إليه الشيطان ، فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله .

وقال عطاء الخراساني : هو الرجل يختم له بشرك أو عمل كبيرة ، فيحبط عمله كله .

وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من ترك صلاة العصر حبط عمله " .

وفي " الصحيح " أيضا إن رجلا قال : والله ، لا يغفر الله لفلان ! فقال الله : " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ؟ قد غفرت لفلان ، وأحبطت عملك ! "

[ ص: 183 ] وقالت عائشة : أبلغي زيدا أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يتوب !

وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات ، ثم تعود بالتوبة منها .

وخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " من رواية أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح ، فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال .

وبإسناده عن الحسن في قوله : ولا تبطلوا أعمالكم قال : بالمعاصي .

وعن معمر ، عن الزهري في قوله تعالى : ولا تبطلوا أعمالكم قال : بالكبائر .

وبإسناده عن قتادة في هذه الآية قال : من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا عمله بعمل سيئ فليفعل ، ولا قوة إلا بالله ; فإن الخير ينسخ الشر ، وإن الشر ينسخ الخير ، وإن ملاك الأعمال خواتيمها .

وعن السدي قال في هذه الآية : يقول : لا تعصوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمركم به من القتال ، فتبطل حسناتكم .

وعن مقاتل بن حيان قال : بلغنا أنها نزلت ، فشقت على أصحاب النبي [ ص: 184 ] - صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ يرون أنه ليس شيء من حسناتهم إلا هي مقبولة . فلما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فبلغني - والله أعلم - أنهم ذكروا الكبائر التي وجبت لأهلها النار ، حتى جاءت الآية الأخرى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فقال ابن عمر : لما جاءت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ، ورددنا إلى الله عز وجل ، وكنا نخاف على من ركب الكبائر والفواحش أنها تهلكه .

والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها .

حتى قال حذيفة : قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة .

وخرجه البزار عنه مرفوعا .

وعن عطاء قال : إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة .

وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد ، عنه : ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة ، فيحبط عمله .

وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة - فقد أبطل فيما قال ، ولم يقف على أقوال السلف الصالح في ذلك .

نعم ، المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان كله ، وخلدوا بها في النار ، وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية