هذا تقرير ما ذكره nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري هاهنا .
وأما المفرقون بين الإسلام والإيمان فقد تقدم أن المختار عندهم في ذلك أن الإسلام والإيمان إذا قرن بينهما كان لكل منهما معنى ، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه ما يدخل في الآخر .
فذكر الله في هذه الآية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والمصير إليه وهو اليوم الآخر ، وهو الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه السلام في سؤاله عن الإيمان المقرون بالإسلام . وفي بعض ألفاظه زيادة ونقص .
[ ص: 192 ] وفي رواية nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري هذه ذكر الإيمان بلقاء الله ، والإيمان بالبعث ; فأما الإيمان بالبعث فهو الإيمان بأن الله يبعث من في القبور ، والإيمان بلقاء الله معناه الإيمان بوقوف العباد بين يدي الله عز وجل للمحاسبة بأعمالهم والجزاء بها .
وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ولفظه " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " .
وفي رواية nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري هذه " أن تعبد الله ولا تشرك به " .
والمراد الإقرار بتوحيده باللسان ، وقد يراد به مع ذلك فعل جميع أنواع العبادات بالجوارح .
وأما الإحسان ففسره بنفوذ البصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان ، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه .
ويتفاوت المؤمنون والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتا كثيرا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان .
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك هاهنا بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم [ ص: 193 ] تكن تراه ، فإنه يراك " .
قيل : المراد أن نهاية مقام الإحسان أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه ، فيكون مستحضرا ببصيرته وفكرته لهذا المقام ، فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته ، ولا يخفى عليه شيء من أمره .
وقد وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه ، منهم nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=1584وأبو ذر ، ووصى nindex.php?page=showalam&ids=32معاذا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من أهله .
قال بعض السلف : من عمل لله على المشاهدة فهو عارف ، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص .
فهذان مقامان :
أحدهما : مقام المراقبة ، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه ، فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله ، فيراقبه في حركاته وسكناته وسره وعلانيته ، فهذا مقام المراقبين المخلصين ، وهو أدنى مقام الإحسان .
والثاني : أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة ، فيصير كأنه يرى الله ويشاهده ، وهذا نهاية مقام الإحسان ، وهو مقام العارفين .
وكذلك قول nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر لعروة لما خطب إليه ابنته في الطواف ، فلم يرد عليه . ثم لقيه ، فاعتذر إليه وقال : كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا .
ومنه الأثر الذي ذكره nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض : يقول الله : ما أنا مطلع على أحبابي ، إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ، ومثلت نفسي بين أعينهم ، فخاطبوني على المشاهدة ، وكلموني على حضوري .
قال nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب وغيره من السلف : مثل نوره في قلب المؤمن .
فمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان ، وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان ، فعرف ربه وأنس به في خلوته ، وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه ، كما قال بعضهم : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ! بل عجبت [ ص: 195 ] للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك !
وقيل لآخر : أما تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ؟ وقيل لآخر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : ويستوحش مع الله أحد ؟ وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ، ويقول : من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه ، ومن لم يأنس بك فلا أنس !
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل : طوبى لمن استوحش من الناس ، وكان الله جليسه !
وقال معروف لرجل : توكل على الله حتى يكون جليسك ، وأنيسك ، وموضع شكواك !
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15874ذو النون : علامة المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ، ولا يستوحشوا معه . ثم قال : إذا سكن القلب حب الله أنس بالله ; لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا غيره .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " اعبد الله كأنك تراه " - إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته ، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه .
وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة ، كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية - فهو زعم باطل ; فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وغيرهما ، [ ص: 196 ] وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة أيضا : إنه حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين .
وروي في ذلك أحاديث مرفوعة أيضا .
وكذا قال جماعة من التابعين : إنه رآه بقلبه . منهم nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ، وأبو العالية ، nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وإبراهيم التيمي وغيرهم .
فلو كان هؤلاء يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم لم يكن في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك مزية له ، لا سيما وإنما قالوا : إنها حصلت له مرتين ; فإن هؤلاء الصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالا ومقاما دائما أو غالبا لهم . ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء ، ويتفرع على ذلك أنواع من الضلالات والمحالات والجهالات ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
فهذه المقامات الثلاث الإسلام والإيمان والإحسان يشملها اسم الدين ; فمن استقام على الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود في النار وإن دخلها بذنوبه ، ومن استقام على الإحسان إلى الموت وصل إلى الله عز وجل ; قال تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة بالنظر إلى وجه الله .
خرجه nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=52صهيب .
وأما قول جبريل : " أخبرني عن الساعة " ، فقال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " - فمعناه أن الناس كلهم في وقت الساعة سواء ، وكلهم غير عالمين به على الحقيقة .
وقد جاء عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أن نبينا أوتي علم كل شيء سوى هذه الخمس .
وروي ذلك مرفوعا من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر .
وكلاهما في " مسند nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد " .
وذكر عند nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره ، فأنكره بعض من حضره ، فقال nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو : إنما الغيب خمس ، ثم تلا هذه الآية . قال : وما سوى ذلك يعلمه قوم ، ويجهله قوم .
خرجه nindex.php?page=showalam&ids=15768حميد بن زنجويه .
وقد زعم بعضهم كالقرطبي أن هذه الخمس لا سبيل لمخلوق إلى علم بها قاطع ، وأما الظن بشيء منها بأمارة قد يخطئ ويصيب فليس ذلك بممتنع ، ولا نفيه مراد من هذه النصوص .
وقوله : " وسأخبرك عن أشراطها " .
لما كان العلم بوقت الساعة المسئول عنه غير ممكن انتقل منه إلى ذكر أشراطها ، وهي علامتها الدالة على اقترانها . وهذا كما سأله الأعرابي : متى الساعة ؟ فقال : " ما أعددت لها ؟ " فأعرض عن الجواب عن الساعة إلى ذكر الاستعداد لها ; لأنه هو المأمور به ، وهو الذي يعني السائل وغيره وينبغي الاهتمام به .
وفي رواية nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب لهذا الحديث أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " أخبرني عن أمارتها " .
وقد ذكر لها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث علامتين :
إحداهما : أن تلد الأمة ربها ، والمراد بالرب السيد .
واختلف في معنى ذلك ; فقيل : المراد أن يكثر فتوح بلاد الكفر والسبي منهم ، فتكثر السراري ، فتلد الإماء الأولاد من سادتهن ، وولد السيد بمنزلة السيد ، فتصير الأمة ولدت ربها بهذا الاعتبار .
ومن هؤلاء من قال : أريد أن الملوك يتخذون السراري ، فتلد الإماء الملوك ، وهم كالأرباب للناس .
ومنهم من قال : إن العجم تلد العرب ، والعرب كالأرباب للعجم ، قاله nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع بن الجراح .
وعلى هذا القول قد استدل بالحديث من يرى بيع أمهات الأولاد ، ومن يمنعه ; أما من يرى بيعهن فاستدل بقوله : " تلد الأمة ربها " على أن ولد أم الولد رب لها ، فيدل على أن أمه رقيقة تنتقل إلى ملكه بوفاة أبيه ، فيرثها ، فتعتق [ ص: 199 ] عليه ، فيكون حينئذ ربها حقيقة ، وتكون قبل انتقالها إلى ولدها رقيقة ، حكمها كأحكام القن من البيع وغيره ، ولولا ذلك لم تورث .
وممن استدل بهذا على منع بيعهن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد .
وقيل : المراد بقوله " تلد الأمة ربها " - كثرة الفتوح في بلاد الكفار ، وجلب الرقيق حتى تجلب المرأة من بلد الكفر صغيرة ، فتعتق في بلد الإسلام . ثم تجلب أمها بعدها ، فتشتريها البنت ، وتستخدمها جاهلة بكونها أمها . وقد وقع ذلك في الإسلام .
وهذا القول مثل الذي قبله في أن من أشراط الساعة كثرة الفتوح وجلب الرقيق من بلاد الكفر .
وقيل : المراد بقوله : " أن تلد الأمة ربها " - أن يكثر العقوق من الأولاد حتى يعامل الولد أمه معاملة أمته بالسب والإهانة ، ويشهد لهذا أنه جاء في رواية " أن تلد المرأة ربها " ، فلم يخصه بالأمة .
وقيل : المراد بقوله : " أن تلد الأمة ربها " - أن يكثر الجهل ويقل العلم حتى تباع أمهات الأولاد ولهن أولاد ، فربما تداولها أيدي الملاك ، وتطاولت المدد حتى يشتريها بعض أولادها ، ويستخدمها جاهلا بأنها أمه .
[ ص: 200 ] وفي هذا القول نظر وبعد .
وعلى هذا القول والذي قبله فالذي من أشراط الساعة هو كثرة الجهل وقلة العلم ، وفساد الأعمال بظهور العقوق والاستهانة ببيع ما لا يجوز بيعه .
وقيل : بل أراد بولادة الأمة ربها أنه يكثر عدول الناس عن النكاح إلى التسري فقط ، والله أعلم .
والعلامة الثانية : أن يتطاول رعاة الإبل البهم في البنيان .
والبهم هنا بضم الباء ، وهو جمع بهيم . ثم قيل : إن المراد به المجهول الذي لا يعرف ، قاله nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي .
فعلى هذا تكون الرواية " البهم " - بضم الميم - صفة للرعاة .
وقيل : بل المراد به الذي لا شيء لهم ، كما قال : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة بهما " .
وقيل : إن " البهم " - بكسر الميم - صفة للإبل ، وأن الإبل هي السود . وتطاولهم في البنيان هو بمصيرهم ملوكا ذا ثروة وأموال .
وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عنهم ، فقال : " هم العريب " .
وهذا وقع في زمن بني أمية حيث كانوا يستعملون الأعراب الحفاة على الناس ، ويستعينون بهم على أعمالهم . ثم لما انتقل الملك عن العرب إلى غيرهم انتقل إلى من كان ببلاده كذلك .
وفي هذا إشارة إلى أن من أشراط الساعة فساد ولاة الأمور بجهلهم وجفائهم .
وقد خرج nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم من رواية nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد ، عن nindex.php?page=showalam&ids=13723الأعرج ، عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=656588لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان " . وقد كان بناء النبي - صلى الله عليه وسلم - للمساجد والبيوت قصيرا .
وقد روي عن nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن قال : لما بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد قال : " ابنوه عريشا كعريش موسى " . قيل nindex.php?page=showalam&ids=14102للحسن : وما عريش موسى ؟ قال : إذا رفع يده بلغ العريش ، يعني السقف .
وعن nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن قال : كنت أدخل بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان ، فأتناول سقفها بيدي .
وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر أنه كتب إلى البصرة ينهاهم أن لا يرفع أحد بناءه فوق سبعة أذرع .
قال عمار بن أبي عمار : إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة أذرع ناداه مناد : يا أفسق الفاسقين ، إلى أين ؟
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس مرفوعا : " كل بناء - وأشار بيده هكذا على رأسه - أكثر من هذا فهو وبال .
[ ص: 202 ] وفي " سنن nindex.php?page=showalam&ids=11998أبي داود " عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى قبة مشرفة ، فقال : " ما هذه ؟ " فقالوا : " لفلان . فجاء صاحبها ، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعرض عنه . فعل ذلك مرارا حتى هدمها الرجل .
فهذا الحديث قد اشتمل على أصول الدين ومهماته وقواعده ، ويدخل فيه الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة ; فجميع علوم الشريعة ترجع إليه من أصول الإيمان والاعتقادات ، ومن شرائع الإسلام العملية بالقلوب والجوارح ، ومن علوم الإحسان ونفوذ البصائر في الملكوت .
وقد قيل : إنه يصلح أن يسمى " أم السنة " ; لرجوعها كلها إليه كما تسمى الفاتحة " أم الكتاب " و" أم القرآن " ; لمرجعه إليها .