صفحة جزء
1174 - " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر؛ وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة؛ فليصل؛ وأحلت لي الغنائم؛ ولم تحل لأحد قبلي؛ وأعطيت الشفاعة؛ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة؛ وبعثت إلى الناس عامة " ؛ (ق ن)؛ عن جابر ؛ (صح).


(أعطيت خمسا) ؛ أي: من الخصال؛ قاله في " تبوك" ؛ آخر غزواته؛ (لم يعطهن) ؛ الفعلان مبنيان للمفعول؛ والفاعل: الله؛ (أحد [ ص: 567 ] من الأنبياء) ؛ أي: لم تجتمع لأحد منهم؛ أو كل واحدة لم تكن لأحد منهم؛ (قبلي) ؛ فهي من الخصائص؛ وليست خصائصه منحصرة في الخمس؛ بل هي تزيد على ثلاثمائة؛ كما بينه الأئمة؛ والتخصيص بالعدد لا ينفي الزيادة؛ ولا مانع من كونه أطلع أولا على البعض؛ ثم على البقية؛ كما مر؛ فإن قيل: ذا إنما يتم لو ثبت تأخر الدال على الزيادة؛ قلنا: إن ثبت؛ فذاك؛ والأكمل أنه إخبار عن زيادة مستقبلا؛ عبر عنه بالماضي؛ تحققا لوقوعه؛ (نصرت) ؛ أي: أعنت؛ (بالرعب) ؛ بسكون العين المهملة؛ وضمها: الفزع؛ أو: الخوف مما يتوقع نزوله؛ زاد أحمد : " يقذف في قلوب أعدائي" ؛ (مسيرة شهر) ؛ أي: نصرني الله بإلقاء الخوف في قلوب أعدائي من مسيرة شهر بيني؛ وبينهم؛ من سائر نواحي المدينة؛ وجعل الغاية شهرا إشارة إلى أنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه مسافة أكثر من شهر إذ ذاك؛ فلا ينافي أن ملك أمته يزيد على ذلك بكثير؛ وهذا من خصوصية له؛ ولو بلا عسكر؛ ولا يشكل بخوف الجن وغيرهم من سليمان؛ لأن المراد على الوجه المخصوص الذي كان عليه المصطفى؛ من عدم العلم بالتسخير؛ بل بمجرد الشجاعة؛ والإقدام البشري؛ وسليمان علم كل أحد أنها قوة تسخير؛ وفي اختصاص أمته بذلك احتمالات؛ رجح بعضهم منها أنهم قد رزقوا منه حظا وافرا؛ لكن ذكر ابن جماعة أنه جاء في رواية أنهم مثله؛ (واعلم) ؛ أنه ليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب؛ بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو؛ كما ذكروه؛ (وجعلت لي الأرض) ؛ زاد أحمد : " ولأمتي" ؛ أي: ما لم يمنع مانع؛ (مسجدا) ؛ أي: محل سجود؛ ولو بغير مسجد وقف للصلاة؛ فلا يختص بمحل؛ بخلاف الأمم السابقة؛ فإن الصلاة لا تصح منهم إلا في مواضع مخصوصة؛ من نحو بيعة؛ أو كنيسة؛ فأبيحت الصلاة لنا بأي محل كان؛ ثم خص منه نحو حمام؛ ومقبرة؛ ومحل نجس؛ على اختلاف المذاهب؛ تحريما؛ وكراهة؛ (وطهورا) ؛ أي: مطهرا؛ وإن كان بمعنى " الطاهر" ؛ في قوله (تعالى): وسقاهم ربهم شرابا طهورا ؛ إذ لا تطهر في الجنة؛ فالخصوصية ههنا في التطهير؛ لا في الطاهرية؛ والمراد تراب الأرض؛ كما جاء في رواية بلفظ: " وترابها طهورا" ؛ وفي أخرى: " تربتها لنا طهورا" ؛ بفتح الطاء؛ فالتراب مطهر؛ وإن لم يرفع؛ وتقديم المشروط على شرطه لفظا لا يستلزم تقديمه حكما؛ والواو لا تقتضي ترتيبا؛ وفسر المسجد بقوله: (فأينما) ؛ " أي" ؛ مبتدأ؛ فيه معنى الشرط؛ و" ما" ؛ زائدة للتأكيد؛ (رجل) ؛ بالجر بالإضافة؛ (من أمتي) ؛ بيان لـ " رجل" ؛ وفائدته بشارتهم بهذا الحكم التيسيري؛ (أدركته) ؛ أي: الصلاة في محل من الأرض؛ (الصلاة) ؛ أية صلاة كانت؛ قال الزركشي: وجملة " أدركته" ؛ في محل خفض؛ صفة لـ " رجل" ؛ وجواب الشرط قوله: (فليصل) ؛ بوضوء؛ أو تيمم؛ ذكر ذلك لدفع توهم أنه خاص به؛ وقدم النصر الذي هو الظفر بالأعداء؛ لأهميته؛ إذ به قيام الدين؛ وثنى بجعل الأرض ذلك؛ لأن الصلاة وشرطها أعظم المهمات الدينية؛ وفي قوله: " فأيما..." ؛ إلى آخره؛ إيماء إلى رد قول المهلب في شرح البخاري : المخصوص بنا جعل الأرض طهورا؛ وأما كونها مسجدا؛ فلم يأت في أثر أنها منعت منهم؛ وقد كان عيسى - عليه السلام - يسيح في الأرض؛ ويصلي حيث أدركته الصلاة؛ (وأحلت لي الغنائم) ؛ جمع " غنيمة" ؛ بمعنى " مغنومة" ؛ والمراد بها هنا: ما أخذ من الكفار بقهر وغيره؛ فيعم الفيء؛ إذ كل منهما إذا انفرد؛ عم الآخر؛ والمراد بإحلالها له: أنه جعل له التصرف فيها كما يشاء؛ وقسمتها كما أراد؛ قل الأنفال لله والرسول ؛ أو المراد اختصاصه بها - هو وأمته - دون الأنبياء؛ فإن منهم من لم يؤذن له بالجهاد؛ فلم يكن له غنائم؛ ومنهم المأذون الممنوع منها؛ فتجيء نار فتحرقه؛ إلا الذرية؛ ويرجح الثانية قوله: (ولم تحل) ؛ يجوز بناؤه للفاعل؛ وللمفعول؛ (لأحد) ؛ من الأمم السابقة؛ وفائدة التقييد بقوله: (قبلي) ؛ التنبيه على المخصوص عليه من الأنبياء؛ وأنه أفضلهم؛ حيث خص بما لم يخصوا؛ (وأعطيت الشفاعة) ؛ العامة؛ والخاصة؛ الخاصتين به؛ فاللام للعهد؛ أي: عهد اختصاص؛ وإلا فللجنس؛ والمراد: المختصة بي؛ قال النووي : له شفاعات خمس: الشفاعة العظمى للفصل؛ وفي جماعة يدخلون الجنة بغير حساب؛ وفي ناس استحقوا النار؛ فلا يدخلونها؛ وفي ناس دخلوا النار؛ فيخرجون منها؛ وفي رفع درجات ناس في الجنة؛ والمختص به من ذلك الأولى؛ [ ص: 568 ] والثانية؛ ويجوز الثالثة؛ والخامسة؛ (وكان النبي يبعث إلى قومه) ؛ بعثة؛ (خاصة) ؛ بهم؛ فكان إذا بعث في عصر واحد نبي واحد؛ دعا إلى شريعته قومه فقط؛ ولا ينسخ بها شريعة غيره؛ أو نبيان؛ دعا كل منهما إلى شريعته فقط؛ ولا ينسخ بها شريعة الآخر؛ وقال بعض المحققين: واللام هنا للاستغراق؛ بدليل رواية: " وكان كل نبي..." ؛ فاندفع ما جوزه الإمام من أن يكون الخاصة مجموع الخمسة؛ ولا يلزم اختصاص عموم البعثة؛ لأن قوله: " وكل نبي" ؛ صريح في الاختصاص؛ واستشكل بآدم؛ فإنه بعث لجميع بنيه؛ وكذا نوح بعد خروجه من السفينة؛ وأجيب بأجوبة؛ أوضحها أن المراد البعثة إلى الأصناف؛ والأقوام؛ وأهل الملل المختلفة؛ وآدم؛ ونوح ليسا كذلك؛ لأن بني آدم لم يكن ثم غيرهم؛ ونوح لم يكن عند الإرسال إلا قومه؛ فالبعثة خاصة بهم؛ وعامة في الصورة؛ لضرورة الانحصار في الموجودين؛ حتى لو اتفق وجود غيرهم؛ لم يكن مبعوثا لهم؛ (وبعثت إلى الناس) ؛ أي: أرسلت إليهم رسالة (عامة) ؛ فهو نعت لمصدر محذوف؛ أو حال من " الناس" ؛ أي: معممين بها؛ أو من ضمير الفاعل؛ أي: بعثت معمما للناس؛ وفي رواية لمسلم - بدل " عامة" -: " كافة" ؛ قال الكرماني: أي: جميعا؛ وهو مما يلزمه النصب على الحالية؛ والمراد ناس زمنه؛ فمن بعدهم؛ إلى يوم القيامة؛ وقول السبكي: من أولهم؛ إلى آخرهم؛ قال: محقق؛ غريب؛ لا يوافقه من يعتد به؛ ولم يذكر الجن؛ لأن الإنس أصل؛ ومقصود بالذات؛ أو المتنازع فيه؛ أو أكثر اعتناء؛ أو " الناس" ؛ يشمل الثقلين؛ بل خبر " وأرسلت إلى الخلق" ؛ يفيد إرساله للملائكة؛ كما عليه السبكي؛ وختم بالبعث العام كلامه في الخصائص؛ ليتحقق لأمته الجمع بين خيري الدنيا؛ والآخرة؛ وفيه أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء والرسل؛ لما ذكر من أن كل نبي أرسل إلى قوم مخصوصين؛ وهو إلى الكافة؛ وذلك لأن الرسل إنما بعثوا لإرشاد الخلق إلى الحق؛ وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام؛ وكل من كان في هذا الأمر أكثر تأثيرا؛ كان أفضل؛ فكان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيه القدح المعلى؛ إذ لم يختص بقوم دون قوم؛ وزمان دون زمان؛ بل دينه انتشر في المشارق؛ والمغارب؛ وتغلغل في كل مكان؛ واستمر استمداده على وجه كل زمان؛ زاده الله شرفا على شرف؛ وعزا على عز؛ ما در شارق؛ ولمع بارق؛ فله الفضل بحذافيره؛ سابقا؛ ولاحقا.

(ق)؛ في الصلاة؛ وغيرها؛ (ن) ؛ في الطهارة؛ (عن جابر) ؛ ابن عبد الله ؛ قال المصنف: والحديث متواتر.

التالي السابق


الخدمات العلمية