الكلمة السابقة هي كلمة الله بالقضاء المتقدم منه قبل أن يخلق خلقه في أم الكتاب الذي جرى به العلم للمرسلين أنهم لهم المنصورون في الدنيا والآخرة، كما نبه عليه المهلب، وقد سلف في كتاب القدر ما يتضمن هذا الباب منه.
وقوله في حديث nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله - رضي الله عنه - : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء: 85 ] ( فيه ) دليل على أنه لا يبلغ حقيقة العلم بالمخلوقات فضلا عن العلم بالخالق سبحانه، وأن من العلم ما يلزم التسليم فيه لله - سبحانه وتعالى - ، ويجب الإيمان بمشكله، وأن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه كما يزعم المتكلمون، إذ قد علمنا الله تعالى أن السؤال عن الروح ابتغاء ما لم نؤته من العلم، مع أنه تعالى وصف قلوب المتبعين ما تشابه منه بالزيغ وابتغاء الفتنة، ووصف الراسخين في العلم بالإيمان به، وأن كله من عند ربهم مستعيذين من الزيغ الذي وسم الله تعالى به من اتبع تأويل المتشابه، داعين إلى الله لا يزيغ قلوبهم بابتغاء تأويله بعد إذ هداهم إلى الإيمان به.
[ ص: 367 ] أما قوله: ( "كتب عنده أن رحمتي سبقت غضبي" ) فهو - والله أعلم - كتابه في أم الكتاب الذي قضى به وخطه القلم، فكان من رحمته تلك أن ابتدأ خلقه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وبسط لهم من رحمته في قلوب الأبوين على الأبناء من الصبر على تربيتهم ومباشرة أقدارهم ما إذا دبر مدبر أيقن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يرزق الكفار وينعمهم ويدفع عنهم الآلام، ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمة منه لهم، وقد بلغوا من التمرد عليه والخلع لربوبيته غايات تغضبه، فتغلب رحمته ويدخلهم جنته، ومن لم يتب عليه فقد رحمه مدة عمره بتراخي عقوبته عنه، وقد كان له أن لا يمهله بالعقوبة ساعة كفره به ومعصيته له، لكنه أمهله رحمة له، ومع ذاك أن رحمة الله السابقة أكثر من أن يحيط بها الوصف.
فصل:
قوله: ( "لما قضى الله الخلق" ) أي: خلقهم وكل ( صنعة ) محكمة متقنة فهي قضاء، قاله أبو عمرو، ومنه إذا قضى أمرا [ آل عمران: 47 ].
وقوله: ( "فوق عرشه" ) قال بعض العلماء: فوق بمعنى: دون استعظاما أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش، واحتج بقوله: بعوضة فما فوقها [ البقرة: 26 ]. أي: فما دونها، وذكر غيره في فوقها قولين:
أحدهما: فما فوقها في الصغر; لأنه المراد من الكلام.
[ ص: 368 ] والثاني: أنها زائدة كقوله تعالى: فاضربوا فوق الأعناق [ الأنفال: 12 ] أي: الأعناق فما فوق، وقد سلف ذلك أيضا.
فصل:
قوله في حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( "إن خلق أحدكم يجمع" ) الخلق هنا: بمعنى المخلوق، واختلف في الوقت الذي يعرج به الملك، ففي الكتاب بعد مائة وعشرين ( يوما )، وقيل: بعد أربعين ليلة، وقيل: إذا عرج الملك بالنطفة بعد آخر أربعين ليلة تلقى من يده إلى الأرض التي يصير إليها إذا مات ثم يأخذها الملك فيعرج بها.
فصل:
قوله: ( "فيؤذن بأربع كلمات" ) أي: يعلم فيكتب الكلمات الأربع المذكورة، قال الداودي: فقد أخبر أنه يكتب عمله الذي يجازى به عليه، قال: وفي هذا دليل أن الأمر على خلاف من قال: إن الله سبحانه لم يزل متكلما بجميع كلامه، فهل يقول الأربع كلمات قبل أن يرجع إليه بما في الرحم; ويرد قول من قال: إنه سبحانه لو شاء لعذب الخلق، وليس من صفة الحلم أن يتبدل علمه، قد علم في ( الأول ) من يرحم ومن يعذب.
وهذا من الداودي خلاف ما قاله أهل السنة; لأنهم يقولون: إنه تعالى لم يزل متكلما بجميع كلامه، وإنه لو شاء عذب الناس جميعا، واتفق أهل الحق أن كلامه تعالى كلام لنفسه، واختلف هل هو أمر لنفسه ونهي لنفسه، وهو تعالى في الأزل آمر وناه.
[ ص: 369 ] وقال القاضي وغيره: إنه أمر ونهي للإفهام، وأن الكلام واحد والأمر منه هو النهي وهو الخبر وإنما يسمعه السامع، فإذا خلق الله له الفهم بأنه أمر كان أمرا، وإذا أفهمه النهي كان ( كلامه ) نهيا، فعلى هذا لا يكون ( آمرا ولا ناهيا ) في الأزل.
فصل:
قال nindex.php?page=showalam&ids=14277الداودي: وقوله: ( "ثم ينفخ فيه الروح" ) فإنما ذلك; بأن يقول الله له: كن، فيكون قال: وهذا يؤيد ما قلناه; لأن النفخ بكلامه، والكلام الذي نفخ فيه لو وقف لم يكن قبله ولا يكون بعده.
وقوله: ( "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة" ) الحديث، ذكر عن nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز أنه أنكر هذا، قال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره طائعا ثم لا يدخل الجنة، كذا حكاه عنه ابن التين، وهو عجيب منه إن صح.
فصل:
المراد بـ ما بين أيدينا في الآية في حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - أمر الآخرة وبـ وما خلفنا أمر الدنيا وما بين ذلك البرزخ بين الدنيا والآخرة، قاله nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير.
وقوله: وما كان ربك نسيا ، قيل: لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي، وقيل: هو عالم بكل شيء حافظ له لم ينسه ولا شيئا منه.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=14277الداودي: يعني خارج المدينة. قال: والعسيب: هو القضيب. والمخصرة: هو القضيب وربما كان من جريد، قال: ( واشتقاق القضيب ) لما يجد من ثقل الوحي، وقد سلف ذلك مع الكلام على الروح.
وجوابه: أن قليلا وكثيرا إنما يعرفان بالإضافة إلى غيرهما، فإذا أضيفت التوراة إلى علم الله تعالى كانت قليلا من كثير، ألا ترى قوله: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي الآية [ الكهف: 109 ].
وقوله: "فظننت أنه يوحى إليه"، قال nindex.php?page=showalam&ids=14277الداودي: قد أيقنت، ( قال: ) والظن يكون يقينا وشكا وهو من الأضداد، ويدل على صحة هذا التأويل أن في الحديث الذي بعد هذا في باب إنما قولنا لشيء : فعلمت ( أنه ) يوحى إليه، ويصح أن يكون ( هذا ) الظن على بابه، ويكون ظن ذلك، ثم تحققه وهو أظهر; لأن في الحديث الآخر: فحسبت أنه يوحى إليه.
وقوله: ( "وتصديق كلماته" ) قيل: ( يريد ) به الأمر بالقتال في سبيل الله، وما وعد عليه الثواب، ويحتمل أن يريد به الشهادتين، وأن تصديقه بها يثبت في نفسه عداوة من كذبهما والحرص على قتله.
وقوله: "بأن يدخله الجنة" ( يريد إن أصيب بموت أو قتل لأن في اللفظ ما يختص بالقتل دون غيره، ويحتمل أن يريد: يدخله الجنة ) بإثر قتله، ويكون هنا خصوصا للشهداء كما خصوا بأنهم يرزقون، ويحتمل أن يريد أن يدخلها بعد البعث في الآخرة، وتكون فائدة تخصيصه أن ذلك يكون كفارة لجميع خطاياه وإن كثرت إلا ما خصه الدليل فإنه لا ( موازنة ) بين ما اكتسب من الخطايا وبين ثواب جهاده إذ لم يرجع.