التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
7110 7549 - حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أمه، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض. [ انظر: 297 - مسلم: 301 - فتح: 13 \ 518 ].


ثم ساق ستة أحاديث:

أحدها:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به".

ثانيها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - في قطعة من الإفك: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، وأنزل الله تعالى: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم [ النور: 11 ].

ثالثها:

حديث البراء: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء: بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.

رابعها:

حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواريا [ ص: 549 ] بمكة، وكان يرفع صوته، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن جاء به. الحديث سلف قريبا.

خامسها:

حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : "إني أراك تحب الغنم والبادية. . ". الحديث سلف في الأذان

سادسها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض.

( الشرح ):

ترجمة البخاري أخرج القطعة منه مسلم من حديث قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة".

ثم قال: حسن صحيح.

وقوله: ( "زينوا القرآن بأصواتكم" ) أخرجه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن الأعمش، عن طلحة، عن عبد الرحمن بن [ ص: 550 ] عوسجة، عن البراء بن عازب مرفوعا، فذكره وأخرجه أيضا معه ( النسائي وابن ماجه ) كما أسلفناه في موضعه، وروي مقلوبا كما ستعلمه في الباب واضحا مع البحث عنه.

فصل:

قوله: "ما أذن الله لشيء" استمع. ويقال: اشتقاقه من الأذن; لأن السماع يقع بها لذوي الآذان، قال الشاعر:


صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

فصل:

وقوله: ( "زينوا القرآن بأصواتكم" ) أي: بالمد والترتيل ليس التطرب الفاحش الذي يخرج إلى حد الغناء.

فصل:

قال الداودي: وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - أن الله تكلم ببراءة عائشة - رضي الله عنها - حتى أنزل ما أنزل، لا كما قال بعض الناس: إن الله لم يتكلم بكلامه، وهذا عظيم منه; لأنه يلزمه أن يكون تكلم بكلام حادث فتحل فيه الحوادث - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وإنما أراد بقوله: "أنزل الله" أي: أنزل الله إلينا المحدث، وهو عبارة عن القديم [ ص: 551 ] ليس أن الكلام القديم نزل الآن.

فصل:

وكان - عليه السلام - حسن الصوت. ويقال: إنه والخط أول نعم الله على العباد وكلما زاد في العبد من طول أو غيره لم يخرج ( عن ) جملة الناس، وقال الحسن: الزيادة في الجنة من نعم الله وقرأ ( وزاده بسطة في العلم والجسم ) [ البقرة: 247 ] قال - عليه السلام - : "سهل الله لداود القرآن وكان يأمر بدابته لتسرج فلا يفرغ من ذلك حتى يقرأ القرآن" يعني: الزبور، وسمع قراءة أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وكان حسن الصوت، فقال: "قد أوتي صاحبكم مزمارا من مزامير آل داود".

فصل:

قال المهلب: المهارة بالقرآن: جودة التلاوة له بجودة الحفظ فلا يتلعثم في قراءته ولا يغير لسانه فيشكل في حرف أو قصة مختلفة النص، وتكون قراءته سمحة بتيسير الله تعالى له كما يسره على الملائكة الكرام البررة، فهو معها في مثل حالها من الحفظ وتسهيل التلاوة، وفي درجة الأجر إن شاء الله تعالى، فيكون بالمهارة عند الله كريما برا.

[ ص: 552 ] فصل:

يحتمل - كما قال القاضي - أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة; لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله، قال: ويحتمل أن يكون المراد به عامل عملهم وسالك مسلكهم.

وقد أسلفنا ذلك أيضا في تفسير سورة عبس.

فصل:

وكأن البخاري - رحمه الله - أشار بهذه الترجمة وما ضمنها من الأحاديث في حسن الصوت، إلى أن الماهر بالقرآن هو الحافظ له مع حسن الصوت ( به ) ألا تراه أدخل بإثر ( ذلك ) الماهر قوله - عليه السلام - : "زينوا القرآن بأصواتكم" فأحال على الأصوات التي تتزين بها التلاوة في الأسماع لا الأصوات التي تمجها الأسماع; لإنكارها وجفائها على حاسة السمع وتألمها بفزع الصوت المنكر، وقد قال تعالى: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير [ لقمان: 19 ]; لجهارته - والله أعلم - وشدة قرعه للسمع، وفي إتباعه أيضا بهذا المعنى قوله: "ما أذن الله لشيء" ما يقوي قولنا ويشهد له.

وقد تقدم معناه في كتاب: فضائل القرآن ونزيده هنا وضوحا، فنقول: إن الجهر المراد بقوله: "يجهر به". هو إخراج القرآن في التلاوة عن مساق المحادثة بالأخبار بإلذاذ أسماعهم بحسن الصوت [ ص: 553 ] وترجيعه لا الجهر المنهي عنه الجافي على السامع، كما قال تعالى لنبيه: ولا تجهر بصلاتك الآية [ الإسراء: 110 ]، كما قال تعالى في نبيه: ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض [ الحجرات: 2 ].

وقوله: أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ الحجرات: 2 ] دليل على أن رفع الصوت على المكالم بأكثر من صوته من الأذى، والأذى ( حظه )، ويدل على أن المقاومة لمقدار أصوات المتكلمين معافاة من الخطأ إلا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده، فمنع الله تعالى من مقاومته في الآية توقيرا له وإعظاما.

وقد أسلفنا حديث عائشة - رضي الله عنها - في طبق ترجمة القرآن.

وتأويل قوله: "أجران" فيه، والله أعلم، يفسره حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : "من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات"، فيضاعف الأجر لمن يشتد عليه حفظ القرآن، فيعطى لكل حرف عشرين حسنة.

وأجر الماهر أضعاف هذا إلى ما لا يعلم مقداره; لأنه مساو للسفرة الكرام البررة; لأنهم ملائكة. وفي هذا تفضيل الملائكة على بني آدم، وقد سلف ما فيه، وكذلك لم يسند البخاري قوله - عليه السلام - : "زينوا القرآن بأصواتكم" وقد أسندناه، وهو تفسير قوله: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" ; لأن تزيينه بالصوت لا يكون إلا بصوت يطرب سامعيه [ ص: 554 ] ويلتذون بسماعه، وهو ( التغني ) الذي أشار إليه الشارع [ و ] هو الجهر الذي قيل في الحديث، يجهر به بتحسين الصوت الملين للقلوب من القسوة إلى الخشوع، وهذا التزيين الذي أمر به - عليه السلام - .

وإلى هذا أشار أبو عبيد بمجمل الأحاديث التي جاءت في حسن الصوت بالقرآن، إنما هو من طريق التحزين والتخويف والتشويق، وقال: إنما نهى أيوب شعبة أن يحدث بحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم"، لئلا ( يتأول ) الناس فيه الرخصة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الألحان المبتدعة.

وفسر الخطابي الحديث على القلب، فقال: معناه: زينوا أصواتكم بالقرآن، على مذهبهم في قلب الكلام، وهو كثير، يقال: عرضت الناقة على الحوض، أي: عرضت الحوض على الناقة.

وإنما تأولنا الحديث على هذا المعنى; لأنه لا يجوز على القرآن وهو كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق، وقال شعبة: نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث.

وكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "زينوا أصواتكم بالقرآن".

والمعنى: اشتغلوا بالقرآن، والهجوا بقراءته، واتخذوه شعارا، ولم يرد تطريب الصوت والتزين له; إذ ليس ذلك في وسع كل أحد، لعل من [ ص: 555 ] الناس من يريد التزيين له فيفضي به ذلك إلى التهجين.

وهذا معنى قوله - عليه السلام - : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن". إنما هو أن يلهج بتلاوته كما يلهج الناس بالغناء والطرب عليه، وكذلك فسره أبو سعيد بن الأعرابي سأله عنه إبراهيم بن فراس، فقال: كانت العرب تتغنى بالركباني - وهو النشيد بالتمطيط والمد - إذا ركبت الإبل وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب - عليه السلام - أن يكون القرآن هجيرهم مكان التغني بالركباني.

قال ابن بطال: والقول الأول الذي عليه الفقهاء، وعليه تدل الآثار، وما اعتل به الخطابي أن كلام الله لا يجوز أن يزينه صوت مخلوق، فقد نقضه بقوله: وليس التزيين في وسع. إلى آخره، فقد نفى عنه التزيين وأثبت له التهجين.

وهذا خلف من القول، ولو كان من باب المقلوب كما زعمه هذا القائل لدخل في الخطاب من كان قبيح الصوت وحسنه، ولم يكن للصوت الحسن فضل على غيره، ولا عرف للحديث معنى، ولما ثبت أنه - عليه السلام - قال لأبي موسى الأشعري حين سمع قراءته وحسن صوته: "لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود".

وثبت أن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - كان حسن الصوت بالقرآن، فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : اقرأ سورة كذا، فقرأها عليه، فبكى عمر - رضي الله عنه - وقال: ما ( كنت ) أظن أنها نزلت.

[ ص: 556 ] فدل ذلك أن التزيين للقرآن إنما هو تحسين الصوت به; ليعظم موقعه في القلوب وتستميل مواعظه ( من النفوس )، ولا ينكر أن القرآن يزين صوت من أدمن قراءته، وآثره على حديث الناس، غير أن جلالة موقعه من القلوب والتذاذ السامعين به لا يكون إلا مع تحسين الصوت به.

واعترض ابن التين فقال: ظن الشارح - يعني ابن بطال - أن غرض البخاري إثبات حكاية قراءة القرآن بتحسين الصوت، وليس كذلك، وإنما غرضه الإشارة إلى ما تقدم من وصف التلاوة بالحسن والتحسين، والرفع والخفض، ومقارنة الحالات البشرية; لقولها: ( قرأ القرآن في حجري وأنا حائض ). فهذا كله يحقق أن القراءة فعل القارئ، ومتصفة بما تصف به الأفعال، ومتعلقة بالظروف المكانية والزمانية.

فصل:

وقوله في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - : "ارفع صوتك بالنداء": فيه دليل أن رفع الصوت وتحسينه بذكر الله في القرآن وغيره من أفعال البر; لأن في ذلك تعظيم أمر الله والإعلان بشريعته، وذلك يزيد في التخشع وترقيق النفوس.

فصل:

وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - ففيه معنى ما ترجم به من المهارة بالقرآن; لأنه - عليه السلام - كان قد يسر الله ( عليه ) قراءته حتى كان يقرؤه على كل أحواله لا يحتاج أن يتهيأ له بقعود ولا بإحضار حفظ، لاستحكامه فيه [ ص: 557 ] فلا يخاف عليه توقفا; فلذلك كان يقرؤه راقدا وماشيا وقاعدا ونائما، ولا يتأهب لقوة حفظه ومهارته - عليه السلام - .

وفيه: أن المؤمن لا ينجس كما قال - عليه السلام - ، وأن وصف المؤمن بالنجاسة إنما هو إخبار عن حال مباشرة الصلاة ونقض غسله ووضوئه، ألا ترى سماع عائشة - رضي الله عنها - قراءته وهي حائض، والسماع عمل من أعمال المؤمنين مدخور لهم به الحسنات ورفع الدرجات.

التالي السابق


الخدمات العلمية