نا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".
(ولما كان الفرار صيانة للدين أطلق عليه البخاري (دينا) ).
الكلام عليه من وجوه:
أحدها:
هذا الحديث انفرد به nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم رواه هنا عن nindex.php?page=showalam&ids=15020القعنبي، وفي الفتن عن (ابن) يوسف، وفي أثناء الكتاب عن إسماعيل، ثلاثتهم عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك به، وفي الرقاق وعلامات النبوة عن أبي نعيم، عن nindex.php?page=showalam&ids=15136الماجشون، عن عبد الرحمن به، وهو من أحاديث nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك [ ص: 553 ] في "الموطأ".
وزعم nindex.php?page=showalam&ids=13779الإسماعيلي في "مستخرجه" أن إسحاق بن موسى الأنصاري رواه عن معن، عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك فجعله من قول nindex.php?page=showalam&ids=44 (أبي سعيد) لم يجاوزه.
الوجه الثاني: ذكر nindex.php?page=showalam&ids=14231الخطيب في كتابه: "رافع الارتياب" أن الصواب: عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة.
[ ص: 554 ] قال nindex.php?page=showalam&ids=16604ابن المديني: ووهم nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة حيث قال: عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة. وقال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني: لم يختلف على nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في اسمه، قلت: في "الثقات" لابن حبان: خالفهم nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك فقال: عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة. وفي "طبقات ابن سعد": عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة.
واسمه: عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج.
الوجه الثالث: في التعريف برواته غير ما سلف.
أما nindex.php?page=showalam&ids=44أبو سعيد: فهو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد -وقيل: عبد- بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، وزعم بعضهم أن خدرة هي أم الأبجر.
استصغر يوم أحد فرد، وغزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة مع [ ص: 555 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستشهد أبوه يوم أحد.
روي له ألف حديث ومائة وسبعون حديثا، اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين. روى عن جماعة من الصحابة منهم: الخلفاء الأربعة، ووالده nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك، وأخوه لأمه nindex.php?page=showalam&ids=361قتادة بن النعمان، وعنه: جماعة من الصحابة منهم: nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس، وخلق من التابعين. وكان من الحفاظ المكثرين (العلماء) الفضلاء، العقلاء، أحد نجباء الأنصار وعلمائهم مع حداثة سنه، وكان يلبس الخز، ويحفي شاربه ولا يخضب، كانت لحيته بيضاء خصلا. وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يأخذه في الله لومة لائم مع جماعة، واستقال غيره. فأقيل، ويقال له: عفيف المسألة; لأنه عف فلم يسأل أحدا، ولما مات والده لم يترك له مالا، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -; ليسأله فقال حين رآه: "من يستغن أغناه الله، ومن يستعفف أعفه الله"، فقال: ما يريد غيري، فرجع. وكذا والده أيضا; لأنه طوى ثلاثا فلم يسأل، فقال عليه السلام: "من أراد أن ينظر إلى [ ص: 556 ] (العفيف) المسألة فلينظر إلى هذا".
في وفاته ثلاثة أقوال: (أحدها: سنة أربع وسبعين. ثانيها: سنة أربع وستين. ثالثها: سنة خمس ).
(ذكره العسكري بالمدينة يوم جمعة، ودفن والده أيضا بالبقيع، وفي سنه -أعني: سن أبي سعيد- قولان: أحدهما: ابن أربع وسبعين، والثاني: ابن ثلاث وسبعين،) ووهم من قال: سنه أربع وتسعين.
[ ص: 557 ] تنبيهات:
أحدها: (ما) ذكرناه من اسم nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد هو المشهور. وقيل: اسمه سنان، وسنان (والد) nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك يقال له: الشهيد، والخزرج: هو(ابن حارثة) بن ثعلبة بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس ابن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وأسقط أبو عمر عبيدا الأول، وهو الصواب، كما نبه عليه nindex.php?page=showalam&ids=14369 (الرشاطي) ، وخالف nindex.php?page=showalam&ids=12861ابن الكلبي، [ ص: 558 ] وخليفة بن خياط، فأثبتاه.
الثاني: في الصحابة أيضا nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص مالك، وسعد بن مالك العذري قدم في وفد عذرة.
الثالث: لا خلاف في إهمال دال الخدري، وهو نسبة إلى خدرة كما أسلفناه، وقال nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في "ثقاته" في ترجمة nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد: إن خدرة من اليمن، ومراده أن الأنصار من اليمن فهم بطن من الأنصار، وهم نفر قليل بالمدينة. وقال أبو عمر: خدرة وخدارة بطنان من الأنصار، فأبو مسعود الأنصاري من خدارة، nindex.php?page=showalam&ids=44وأبو سعيد من خدرة، وهما ابنا عوف بن الحارث، كما سلف.
قلت: وضبط أبو عمر خدارة -بضم الخاء المعجمة- وهو خلاف ما قاله nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني من كونه بالجيم، أي: المكسورة، وصوبه [ ص: 559 ] nindex.php?page=showalam&ids=14369الرشاطي، وكذا نص عليه العسكري في "الصحابة" والحافظ أبو الحسن المقدسي، قلت: وفي (سلمى) خدرة بن كاهل، قاله nindex.php?page=showalam&ids=13055ابن حبيب.
الرابع: يشتبه (الخدري) بالخدري -بكسر الخاء وسكون الدال- نسبة إلى (خدرة) بطن من ذهل بن شيبان، وبالخدري -بفتحهما- وهو nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد بن الحسن، متأخر روى عن أبي حاتم، وبالجدري -بفتح الجيم والدال- وهو عمير بن سالم، وبكسر وسكون نسبة إلى جدرة بطن من كعب.
الخامس: قد ذكرنا أن خدرة تشتبه بأربعة أشياء: خدرة وخدرة وجدرة (وجدرة)، وتشتبه أيضا بثلاثة أشياء أخر (ذكرتهم) في "مشتبه النسبة" فراجعها منه.
قال nindex.php?page=showalam&ids=13147ابن دريد: خدرة فعلة، إما من الخدر أو من الخدرة حكاه [ ص: 560 ] nindex.php?page=showalam&ids=14369الرشاطي عنه.
السادس: أبو سعيد هذا صحابي (ابن صحابي) أسلم والده، وقتل يوم أحد كما سلف، قتله عرار بن سفيان الكلابي. ولم يرو عنه شيء كما نص عليه العسكري فيما زعم، قال: (وذكر) بعضهم (أن أبا شيبة أخاه) لا يعرف اسمه، وذكره nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم فيمن لا يعرف اسمه، مات في أيام nindex.php?page=showalam&ids=17374يزيد بن معاوية غازيا، ودفن في بلاد الروم.
وروى أبو سعيد الأشج حديثا قال فيه: عن أبي سلمة الخدري، -ولست أعرفه- وأحسبه: عن nindex.php?page=showalam&ids=12031أبي سلمة، عن الخدري فوهم -فهذه مهمات في ترجمة nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد لا يسأم منها; فإنه يرحل إليها.
وأما عبد الرحمن ووالده عبد الله فأنصاريان مازنيان مدنيان ثقتان، وقد (سقنا نسبهما) فيما مضى، وجد عبد الرحمن الأعلى الحارث، شهد أحدا، وقتل يوم اليمامة شهيدا مع nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد، وكان عمرو [ ص: 561 ] -أبو صعصعة، بفتح الصادين المهملتين- سيد بني مازن بن النجار، قتله برذع بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر من الأوس غيلة بدل قيس بن الخطيم، وكان قتله قوم من بني النجار وبني سلمة، ثم أسلم بردع وشهد أحدا.
قال ابن سعد: أدرك مالك بن أنس أبا عبد الرحمن وروى عنه (...) وعن ابنيه عبد الرحمن nindex.php?page=showalam&ids=12070ومحمد البخاري nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه، وروى nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود لعبد الله، وابنه عبد الرحمن، ولم يرو(مسلم) عن أحد منهم شيئا.
قال nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي: عبد الله ثقة وكذا ولده. وذكره nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان أيضا في "ثقاته"، مات عبد الرحمن سنة تسع وثلاثين ومائة، وقال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك: كان (لبني) أبي صعصعة حلقة في المسجد بين المنبر والقبر، وفيهم رجال أهل علم ورواية ومعرفة كلهم كان يفتي.
[ ص: 562 ] وأما عبد الله: فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن (قعنب) القعنبي الحارثي المدني، سكن البصرة، كان (مجاب) الدعوة، سمع nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة، وخلائق لا يحصون من الأعلام، وسمع من شعبة حديثا واحدا، وله معه قصة، وهو: nindex.php?page=hadith&LINKID=702158 "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
وإمامته وإتقانه (وثقته) وجلالته وحفظه وصلاحه وورعه وزهده مجمع عليه، قال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني منه.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم: لم أر أخشع منه وقيل nindex.php?page=showalam&ids=16867لمالك: إن عبد الله قدم، فقال: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض، وقال عبد الله: اختلفت إلى [ ص: 563 ] nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ثلاثين سنة، ما من حديث في "الموطأ" إلا لو شئت قلت: سمعته مرارا من nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك، ولكني (اقتصرت) على قراءتي عليه; لأن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا كان يذهب إلى أن القراءة على الشيخ أثبت من قراءة العالم.
[ ص: 564 ] وقال أبو سبرة الحافظ: قلت للقعنبي: حدثت ولم تكن تحدث! قال: رأيت كأن القيامة قد قامت فصيح بأهل العلم فقاموا، فقمت معهم، فصيح بي: اجلس، فقلت: إلهي، ألم أكن معهم أطلب؟ قال: بلى ولكنهم نشروا وأخفيته; فحدثت.
روى عنه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم فأكثرا، nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم عن nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عنه حديثا واحدا في الأطعمة، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397 (والنسائي) عن رجل عنه.
قوله: "يوشك" هو -بكسر الشين وبضم الياء- أي: يسرع ويقرب، ويقال في ماضيه: أوشك، ومن أنكر استعماله ماضيا فغلط، فقد كثر استعماله.
قال الجوهري: أوشك فلان، يوشك إيشاكا أي: أسرع.
قال جرير:
[ ص: 565 ]
إذا جهل الشقي ولم يقدر ببعض الأمر أوشك أن يصابا
قال: والعامة (تقول) : يوشك -بفتح الشين وهي لغة رديئة- قال أبو يوسف -يعني: ابن السكيت: واشك يواشك وشاكا، مثل أوشك، ويقال: إنه مواشك، أي: مسارع.
ويوشك أحد أفعال المقاربة، يطلب اسما مرفوعا وخبرا (منصوب المحل) لا يكون إلا فعلا مضارعا مقرونا بأن، وقد يسند إلى أن والفعل المضارع فيسد ذلك مسد اسمها وخبرها، كما جاء في هذا الحديث. ومثله قول الشاعر:
يوشك أن يبلغ منتهى الأجل فالبر لازم برجاء (ووجل)
وقوله: ("خير مال المسلم غنم") يجوز فيه وجهان:
أحدهما: نصب "خير" وهو الأشهر في الرواية، وهو خبر يكون مقدما ولا يضر كون الاسم -وهو"غنم"- نكرة; لأنها وصفت بـ "يتبع (بها).
وثانيهما: رفعه على أن (يكون في) "يكون" ضمير الشأن; لأنه كلام تضمن تحذيرا وتعظيما لما يتوقع. ويكون: "خير مال المسلم غنم" مبتدأ وخبرا، وقد روي: "غنما" بالنصب وهو ظاهر، وقوله:
[ ص: 566 ] "يتبع" هو بتشديد التاء، وقوله: "شعف الجبال" هو بشين معجمة مفتوحة ثم عين مهملة، وهي رءوس الجبال، وشعف كل شيء: أعلاه، والواحدة: شعفة.
وقوله: ("يفر بدينه من الفتن") أي: من (فساد ذات البين) وغيرها، وخصت الغنم بذلك; لما فيها من السكينة والبركة -وقد رعاها الأنبياء والصالحون صلوات الله عليهم وسلامه- مع أنها سهلة الانقياد، خفيفة المؤنة، كثيرة النفع.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11863أبو الزناد: إنما خص الغنم حضا على التواضع والخمول وترك الاستعلاء.
وقال غيره: إنما ذكر شعف الجبال لفراغها من الناس غالبا، وشبهها مثلها، وقد ذكر في حديث nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم بطن الوادي معه كما سلف.
الوجه الخامس: في فوائده:
وهي كثيرة منها:
فضل العزلة في أيام الفتن; لإحراز الدين; ولئلا تقع عقوبة فتعم، [ ص: 567 ] إلا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها، إما فرض عين، وإما فرض كفاية بحسب (الحال) والإمكان.
وأما في غير أيام الفتنة (فاختلف) العلماء أيها أفضل: العزلة أم الاختلاط؟ فذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي والأكثرون إلى تفضيل الخلطة; لما فيها من اكتساب الفوائد، وشهود الشعائر، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم ولو بعيادة (المرضى)، وتشييع الجنائز، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وإعانة المحتاج، وحضور (جماعاتهم)، وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد. فإن كان صاحب (علم) أو سليك في الزهد ونحو ذلك تأكد فضل اختلاطه.
وذهب آخرون إلى تفضيل العزلة; لما فيها من السلامة المحققة لمن [ ص: 568 ] لا يغلب على ظنه الوقوع في المعاصي، ومنها الاحتراز من الفتن.
وقد أخرج nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في الفتن: حديث سلمة بن الأكوع، أنه لما قتل عثمان خرج سلمة إلى الربذة، فتزوج هناك امرأة وولدت له أولادا، فلم يزل بها حتى كان قبل أن يموت بليال; فنزل المدينة.