التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4733 5021 - حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن سفيان ، حدثني عبد الله بن دينار قال : سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : " إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس ، ومثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا ، فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود ، فقال : من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر ؟ فعملت النصارى ، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين ، قالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء ، قال : هل ظلمتكم من حقكم ؟ قالوا : لا . قال : فذاك فضلي أوتيه من شئت " . [انظر : 557 - فتح: 9 \ 66 ]


ساق فيه حديث أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب ، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها " .

وحديث ابن عمر السالف .

[ ص: 99 ] ووجه ذكره لهما هنا لما كان ما جمع طيب الرائحة والطعم أفضل المأكولات . وشبه الشارع المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة التي جمعت طيب الرائحة وطيب الطعم ، دل ذلك أن القرآن أفضل الكلام ، ودل هذا الحديث على مثل القرآن وحامله والعامل به ، والتارك له ، وكذا حديث ابن عمر لما كان المسلمون أكثر أجرا من الفريقين دل ذلك على فضله على التوراة والإنجيل ; لأن المسلمين إنما استحقوا هذه الفضيلة بالقرآن الذي فضلهم الله به ، وجعل فيه الحسنة عشر أمثالها والسيئة واحدة ، وتفضل عليهم بأن أعطاهم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات كما قال ابن مسعود ، وأسنده مرفوعا أيضا ، وقد وردت آثار كثيرة في فضائل القرآن والترغيب في قراءته .

روى سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : "يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " .

وقالت عائشة رضي الله عنها : جعلت درج الجنة على عدد آي القرآن ، فمن قرأ ثلثه كان على الثلث منها ، ومن قرأ نصفه كان على النصف منها ، ومن قرأ كله كان في (علية ) لم يكن فوقه إلا نبي

[ ص: 100 ] أو صديق أو شهيد .

وروى أبو قبيل ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : "إن القرآن والصيام يشفعان يوم القيامة لصاحبهما ، فيقول الصيام : يا رب إني منعته الطعام والشراب فشفعني فيه . ويقول القرآن : يا رب إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، فيشفعان فيه " .

وروى أبو نعيم ، عن بشير بن المهاجر ، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كنت جالسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول : "إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل (الشاب ) فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك . فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأك في الهواجر وأسهرك ليلك ، وإن كل تاجر وراء تجارته ، وإنك من وراء كل تجارة ، فيعطى الملك بيمينه ، والحلة بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا ،

[ ص: 101 ] فيقولان : بما كسينا هذا ؟ فيقال لهما : بأخذ ولدكما القرآن . ثم يقال : اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها ، فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا "
.

وقال ابن عباس : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر .

فصل :

ذكر هنا في الفاجر الذي لا يقرأ : "كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها " ، وفي البخاري قريبا في باب : من راءى به : "وريحها مر " . وكأن ما هنا أجود ; لأن الريح لا طعم له ; إذ المرارة عرض ، والريح عرض ، والعرض لا يقوم بالعرض . وقد يقال : إن ريحها لما كان كريها استعار للكراهية لفظ المرارة لما بينهما من الكراهة المشتركة .

وروى ابن الضريس من حديث الجريري ، عن قسامة بن زهير ، عن أبي موسى : "مثل الذي يقرأ القرآن ويعمل به مثل الأترجة طيب ريحها طيب (خارجها ) ، ومثل الذي يعمل به ولا يقرؤه كمثل النخلة طيب (خارجها ) ولا ريح لها . . " الحديث .

[ ص: 102 ] ثم قال : حدثني مسدد ، ثنا أبو عوانة ، ثنا قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة " .

فصل :

تمثيل رسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالطعم ، والقرآن بالريح في قوله : "طعمها طيب وريحها طيب " لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن ، إذ جريان الكفر عليه قليل نادر ، كما أن الطعم ألزم للجوهر من الريح ، وأخص به ، إذ كثير من الجواهر يذهب ريحها وطعمها باق .

فصل :

هذا الحديث يقتضي قسمة رباعية ; لأن الإنسان إما مؤمن وإما منافق ، وكل منهما إما قارئ أو غيره ، وكذا الجوهر إما أن يجتمع فيه الطعم أو الريح أو ينتفيا ، أو يوجد أحدهما دون الآخر .

فصل :

قال بعضهم فيما حكاه المنذري : قراءة الفاجر والمنافق لا ترفع إلى الله ، ولا تذكر عنده ، وإنما يرفع إليه ويذكر عنده من الأعمال ما أريد به وجهه وكان عن نية وقربة ، ألا ترى أنه شبه الفاجر القارئ بالريحانة من حيث أنه لم ينتفع ببركة القرآن ، ولم يفز بحلاوة أجره ، ولم يجاوز الطيب حلوقهم موضع الصوت ، ولا بلغ إلى قلوبهم ذلك الطيب ; لأن طعم قلوبهم مر بالنفاق المستتر فيها كما استتر طعم الريحانة في عودها مع ظهور رائحتها .

فائدة : الأترجة بضم الهمزة وتشديد الجيم ، ويقال أترنجة ، وفي

[ ص: 103 ] رواية : الأترنجة . وحكى أبو زيد : ترنجة وترنج وترج . وذكر العلامة عبد الوهاب بن سحنون التنوخي في كتاب "الأدوية القلبية " أن بعض الحكماء غضب عليه بعض الأكاسرة وسجنه ، وقال : خيروه إداما واحدا لا يزاد عليه ; فقيل له ، فاختار الأترج ، فسئل عن ذلك فقال : في العاجل ريحان يسر نفسي ، والتبقل بقشره يفرح قلبي ، ولحمه وقشره خاصة إدامان يغتذي بهما بدني ، وأستخرج من حبه دهنا أقضي به وطري .

قال ابن سحنون : جمع الله فيه ما لم يجمع في غيره من الثمار من الفوائد والمنافع .

فصل :

قد أسلفنا أن الحديث الأول وصف فيه حامل القرآن والعامل به بالكمال ، وهو اجتماع المنظر والمخبر ، ولم يثبت هذا الكمال لحامل غيره من الكلام . ووصف في الثاني فضل الأمة وخصوصيتها دون سائر الأمم ، وما اختصت إلا بالقرآن ، فدل على أنه السبب في فضلها ، ويؤخذ من ذلك فضل القرآن على غيره من الكتب كما سلف ، فكيف بالكلام .

فصل :

قد أسلفنا في الصلاة أن أبا حنيفة احتج بالحديث الثاني في أن وقت العصر عند مصير الظل مثليه ، آخر وقتها المختار عندنا ; لأن كثرة

[ ص: 104 ] العمل تقتضي طول النهار من الزوال إلى العصر أكثر مما بين العصر إلى المغرب ، وعندنا أنها سواء ، وقد أجبنا بأن الحديث إنما قصد به الأعمال لا بيان الأوقات .

وقولهم : (نحن أكثر عملا ) يعني : أن عمل الفريقين جميعا أكثر . لا يقال : إن هذا خطأ ; لأن الفريقين لهما قيراطان ; لأنهم قالوا : نحن أقل عطاء ، فعلم أنه يعني كل طائفة ; لأنا نقول : إن الظاهر أن الإخبار بكثرة العمل وشكوا قلة الأجر في مقابلة عملهما بالإضافة إلى أجر المسلمين في مقابلة عملهم ، وهذا صحيح عند التقسيط ; لأن من خاط ثوبا بقيراط ، وآخر خاط اثنين بقيراط فأجر الثاني أقل في مقابلة عمله .

وقوله ("هل ظلمتكم من حقكم ؟ قالوا : لا" ) وذلك صحيح ، لأنهم استؤجروا برضاهم على عمل معين بأجرة معلومة .

التالي السابق


الخدمات العلمية