التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
4851 [ ص: 444 ] 47 - باب: الخطبة

5146 - حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم قال : سمعت ابن عمر يقول جاء رجلان من المشرق فخطبا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن من البيان سحرا " . [ 5767 - فتح: 9 \ 201 ] .


ذكر فيه حديث ابن عمر يقول جاء رجلان من المشرق فخطبا ، فقال رسول الله : "إن من البيان سحرا " .

الشرح :

هذا الحديث ذكره في الطب ، وأبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح . قال الترمذي : وفي الباب عن عمار وابن مسعود وعبد الله بن الشخير .

والمشرق هنا مشرق المدينة ، وللترمذي : فعجب الناس من كلامهما ، فالتفت إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "إن من البيان سحرا " أو "إن بعض البيان سحر " .

والرجلان : الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، واسمه سنان ، هتمه قيس بن عاصم ، وكانا وفدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع من الهجرة في وفد بني تميم ، سبعين أو ثمانين ، فيهم الأقرع بن حابس ، وقيس بن عاصم ، وعطاء بن حاجب .

روى البيهقي في "دلائله " من حديث مقسم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميون ، ففخر الزبرقان فقال : يا رسول الله ، أنا سيد بني تميم والمطاع منهم والمجاب ، أمنعهم من الظلم ، وآخذ لهم

[ ص: 445 ] بحقوقهم ، وهذا يعلم ذلك -يعني عمرا - فقال عمرو : إنه شديد العارضة ، مانع لجانبه ، مطاع في أدنيه . فقال الزبرقان : والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال ، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد . فقال عمرو : أنا أحسدك ! والله يا رسول الله إنه للئيم الخال ، حديث المال ، أحمق الولد ، مضيع في العشيرة ، والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الآخرة ، ولكني رجل إذا رضيت قلت : أحسن ما علمت ، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت . فقال - عليه السلام - :
"إن من البيان سحرا ، إن من البيان سحرا "
.

وفي حديث محمد بن الزبير الحنظلي قال - عليه السلام - لعمرو : "أخبرني عن هذا -يعني : الزبرقان - فأما هذا -يعني قيس بن عاصم - فلست أسألك عنه " قال : وأراه قد كان عرفه .

ولأبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل يتكلم بكلام فقال - عليه السلام - . . الحديث .

وعند أبي زرعة دخل رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم - . . الحديث .

ومن حديث صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه ، عن جده مرفوعا : "إن من البيان سحرا ، وإن من العلم جهلا ، وإن من الشعر حكما ، وإن من القول عيالا " .

فقال صعصعة بن صوحان العبدي : صدق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأما قوله : "إن من البيان سحرا " فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق ، فيسحر القوم ببيانه ، فيذهب بالحق .

[ ص: 446 ] وأما قوله : "من العلم جهلا " فهو أن يتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهل لذلك .

وأما قوله : "إن من الشعر حكما " فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس ، وأما قول : " [إن ] من القول عيالا " فعرضك كلامك على من ليس من شأنه ولا يريده .

ورواه أبو زرعة الحافظ أحمد بن الحسين بن علي الرازي في كتاب الشعراء من حديث حسام بن مصك ومحمد بن سليم ، وعن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، به .

وذكر ابن التين أن الخاطبين ، الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم ، مدحه الزبرقان فأبلغ ، ومدحه الآخر فقصر عن بعض ما فيه . فقال الزبرقان : حسدني والله يا رسول الله على مكاني منك ، ولقد كتم بعض ما يعلم ، وإنه لضيق العطن لئيم الولد ، والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى ، ولقد صدقت في الثانية ، أرضاني ابن عمي فقلت أحسن ما فيه ، وأغضبني فقلت أشر ما فيه .

فصل :

وهذا الحديث له طرق أخرى :

أحدها : طريق (عمران ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن من البيان سحرا " .

ثانيها : من طريق البراء مرفوعا بزيادة : "إن من الشعر حكما " . أخرجه أبو زرعة في الكتاب السالف . وقال الدارقطني في "أفراده " :

[ ص: 447 ] غريب من حديث أبي إسحاق عن البراء ، ومن حديث العرزمي محمد عنه ، تفرد به أبو داود الحفري عنه .

ثالثها : طريق مطرف عن أبيه عبد الله بن الشخير : قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهط من بني عامر فقالوا : أنت سيدنا ، وأفضل علينا فضلا ، وأطول علينا طولا ، وأنت الجفنة الغراء ، فقال - عليه السلام - : "لا يشهدنكم الشيطان " .

ثم قال : "إن من البيان سحرا " أخرجه الطبري في "تهذيبه " من حديث مهدي بن ميمون ، عن غيلان بن جرير ، عن مطرف به ، وأخرجه العسكري ، عن غيلان ، عن مطر بن حماد بن واقد ، حدثنا مهدي ، فذكره مختصرا . وزعم الترمذي أن في الباب عن ابن مسعود ، ثم ذكر حديثه ، وليس فيه إلا خطبة النكاح فلا أدري أهو مراده أم لا .

فصل :

قال ابن التين : أدخل هذا الباب في النكاح وليس هو موضعه .

قلت : بل هو موضعه ، فإن قصده الخطبة عند الخطبة ، ويجوز أن يريد عقد النكاح ، والخطبة عند الحاجة من الأمر القديم المعمول به .

وفيه حديث ابن مسعود المشار إليه ، وقد أخرجه أصحاب السنن الأربعة والحاكم ، وحسنه الترمذي .

ووجه استحبابها تسهيل أمر الخاطب والرغبة في الدعاء إليه ، ألا ترى أنه - عليه السلام - قد شبه حسن التواصل إلى الحاجة بحسن الكلام

[ ص: 448 ] فيها ، واستنزال المرغوب إليه بالبيان بالسحر ، وإنما هذا من أجل ما في النفوس من الأنفة في أمر (الموليات ) ، فقال - عليه السلام - أن حسن التواصل إلى هذا (الذي ) تأنف النفوس منه حتى تحبب إلى ذلك المستبشع وجه من وجوه السحر الحلال .

واستحب جمهور العلماء الخطبة في النكاح ، قال مالك : هذا الأمر القديم وما قل منها فهو أفضل .

قال ابن حبيب : كانوا يستحبون أن يحمد الله الخاطب ويصلي على نبيه ، ثم يخطب المرأة ، ثم يجيب المخطوب إليه بمثل ذلك من حمد الله والصلاة على نبيه ، ثم يذكر إجابته . وأوجبها أهل الظاهر فرضا ، واحتجوا بأنه - عليه السلام - خطب حين زوج فاطمة ، وأفعاله على الوجوب .

واستدل الفقهاء على عدم وجوبها بقوله : "قد زوجتكها بما معك من القرآن " ولم يخطب ، وبقوله : "كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع " أي : ناقص ولم يقل : إن العقد لا يتم ، بدليل تزويجه المرأة ولم يخطب .

وفي أبي داود أنه - عليه السلام - خطب إليه رجل قال : فأنكحني من غير أن يتشهد ، وفي كتاب ابن أبي شيبة : زوج الحسين بن علي بعض بنات أخيه وهو يتعرق العرق ، وزوج مسروق شريحا ولم يخطب ،

[ ص: 449 ] وأنكح عمر رجلا وهو يمشي .

فصل :

والبيان : الإتيان بلفظ آخر لا يزيد على كشف معناه بزيادة ألفاظ رائعة تستميل القلوب وتجلبها ، كما أن السحر يخرجها عن حد الاعتدال ، وهذا إذا كان اللفظ فيه صدقا وجائزا ، والمقصود به بغير الحق كان ممدوحا ، فقد كان لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيب يلقى به الوافدين وهو ثابت بن قيس ، وشاعر وهو حسان بن ثابت ، وإذا كان البيان على ضد ذلك كان الذم لذلك لا للفظ ، كالشعر فإنه يذم بما يتضمنه ويمدح لا للنظم .

وقيل : البيان : ما تقع به الإبانة عن المراد بأي لغة كان ، ولم يرد بالسحر هذا النوع ، وإنما أراد به بيان بلاغة وحذق ، وهو ما دخلته الصيغة بالتحسين لألفاظه حتى يستميل به قلوب سامعيه ، فهذا يشبه السحر في جلب القلوب ، وربما حول الشيء عن ظاهر صورته فيبرزه للناظرين في معرض غيره ، فهذا يمدح فاعله ، والمذموم من هذا الفصل أن يقصد به الباطل واللبس فيوهمك المنكر معروفا ، وهذا مذموم ، وهو أيضا يشبه بالسحر ، إذ السحر صرف الشيء عن حقيقته قال تعالى : فأنى تسحرون [المؤمنون : 89 ] أي : يصرفون ، وهذا من باب تسمية الشيء ببعض معناه ; لأنه سمى البيان سحرا ، وإنما هو مضارع للسحر . وحكي عن يونس أن العرب تقول : ما سحرك عن وجه كذا . أي : صرفك .

[ ص: 450 ] وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا سأله حاجة فاعتاض عليه قضاؤها ، فرفق له الرجل في القول ، فقال : إن هذا هو السحر الحلال ، وأنجزها له .

فصل :

في الحديث فضل البلاغة والمجاز والاستعارة ، وجواز الإفراط في المدح ; لأنه لا شيء في الإعجاب والأخذ بالقلوب يبلغ مبلغ السحر ، وإنما تحمد البلاغة و (اللسانة ) إذا لم تخرج إلى حد الإسهاب والتفيهق ، فقد جاء في أبي داود : "أبغضكم إلى الله الثرثارون المتفيهقون " وكان هذا -والله أعلم - إذا كان ممن يحاول تزيين الباطل وتحسينه بلفظ ويريد إقامته في صورة الحق ، فهذا هو المكروه الذي ورد فيه التغليظ .

وأما قول الحق فجميل على كل حال ، كان فيه إطناب أو لم يكن إذا لم يتجاوز الحق ، غير أن أوساط الأمور أعدلها . وقد اتفق علماء اللغة وغيرهم على مدح الإيجاز ، والاختصار في البلاغة ، وإدراك المعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة . وقيل : المراد بالبيان هنا : الذم .

واستدل متأول ذلك بادخال مالك هذا الحديث في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله ، وهو مذهبه في تأويل الحديث والأول أولى ، قال تعالى : خلق الإنسان علمه البيان [الرحمن : 3 ، 4 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية