2156 ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - عليه السلام - أمر سليكا بما أمره به من ذلك فقطع خطبته إرادة منه أن يعلم الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف الخطبة، ويجوز أيضا أن يكون بنى على خطبته، وكان ذلك قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم نسخ الكلام في الصلاة، فنسخ أيضا في الخطبة.
وقد يجوز أن يكون ما أمره به من ذلك كما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة معمولا بها.
أفلا ترى أن رسول الله - عليه السلام - أمر هذا الرجل بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، فهذا بخلاف حديث سليك، وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري الذي قد رويناه في الفصل الأول ما يدل على أن ذلك كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن ينهى عنها، ألا تراه يقول: "فألقى الناس ثيابهم" وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه والإمام يخطب مكروه، وأن مسه الحصى والإمام يخطب مكروه، وأن قوله لصاحبه: أنصت والإمام يخطب مكروه، فدل ذلك على أن ما كان أمر به النبي - عليه السلام - سليكا والرجل الذي أمر بالصدقة عليه كان في حال الحكم فيها في ذلك بخلاف الحكم فيما بعد.
[ ص: 28 ] ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه "أنه" أي أن الشأن "قد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر سليكا الغطفاني بما أمره به" أي بالذي أمره به "من ذلك" أي من أن يصلي ركعتين خفيفتين.
تقرير هذا الجواب: أن حديث سليك يحتمل ثلاث معان:
الأول: يحتمل أن يكون أمره إياه بذلك بعد قطع خطبته لإرادة تعليمه الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف الخطبة بعد ذلك.
الثاني: يحتمل أن يكون بنى على خطبته ولم يستأنفها والحال أن ذلك كان منه قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم لما نسخ في الصلاة نسخ أيضا في الخطبة ; لأنها شطر صلاة الجمعة وشرطها.
الثالث: يحتمل أن يكون ما أمر به النبي - عليه السلام - سليكا من الصلاة بركعتين كما قال أهل المقالة الأولى، ويكون سنة معمولا بها.
وإذا احتمل هذا الحديث هذه الاحتمالات نحتاج أن ننظر، هل ورد شيء يبين أن المراد أحد الاحتمالات المذكورة؟ وهل ورد شيء يخالف صريحا حديث سليك المذكور؟
فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - المذكور عن قريب الذي احتج به أهل المقالة الأولى يبين الاحتمال الثاني ويؤكده ; لأنه ذكر فيه أن رسول الله - عليه السلام - قال للناس: "تصدقوا" فألقوا ثيابهم، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه في حال خطبة الإمام مكروه، وكذلك مسه الحصى، وقوله لصاحبه: أنصت، فدل ذلك على أن أمر النبي - عليه السلام - سليكا بما أمره به إنما كان ذلك في حال إباحة الكلام وسائر الأفعال في الخطبة، ثم لما حرم الكلام وغيره فيها منع من الصلاة أيضا على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
وأما الحديث الذي ورد وهو يخالف حديث سليك صريحا فهو ما أخرجه عن nindex.php?page=showalam&ids=15516بحر بن نصر بن سابق الخولاني ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16472عبد الله بن وهب المصري ، عن nindex.php?page=showalam&ids=17109معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس، عن nindex.php?page=showalam&ids=11861أبي الزاهرية حدير بن [ ص: 30 ] كريب الحضرمي الحمصي ، عن nindex.php?page=showalam&ids=11788عبد الله بن بسر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- الصحابي - رضي الله عنه -.
وإسناده صحيح، ورجاله رجال "الصحيح" ما خلا nindex.php?page=showalam&ids=15516بحر بن نصر .
وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي نحوه: عن وهب بن بيان ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16472عبد الله بن وهب ، عن nindex.php?page=showalam&ids=17109معاوية بن صالح. انتهى.
فهذا يدل على أن الداخل يوم الجمعة والإمام يخطب يقعد ولا يصلي شيئا ; لأن رسول الله - عليه السلام - أمر هذا الرجل بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، ولو كانت الصلاة مفعولة في هذا الوقت لأمره بها ونسبه أيضا إلى الإيذاء حيث قال له: "آذيت" أي آذيت الناس بتخطي رقابهم، ونسبه أيضا إلى التقصير في فعله هذا حيث قال له: "وآنيت" أي أخرت المجيء وأبطأت فيه، ومنه قيل للمتمكث في الأمر: متأن، فدل هذا كله أن ما كان من حديث سليك في حالة كان الحكم فيها في ذلك بخلاف الحكم فيما بعد ذلك وهو معنى "فدل ذلك على أن ما كان. . . " إلى آخره.
قوله: "في حال الحكم فيها" بتنوين "حال"، وقوله: "الحكم" بالرفع مبتدأ وخبره قوله: "بخلاف الحكم".
[ ص: 31 ] فإن قيل: فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم: وهذا الحديث لا حجة لهم لوجوه أربعة:
أولها: أنه لا يصح لأنه من طريق nindex.php?page=showalam&ids=17109معاوية بن صالح، لم يروه غيره، وهو ضعيف.
والثاني: أنه ليس في الحديث أنه لم يكن ركعهما، وقد يمكن أن يكون ركعهما ثم تخطى، ويمكن أن لا يكون ركعهما، فإذ ليس في الخبر لا أنه ركع ولا أنه لم يركع ; فلا حجة لهم فيه ولا عليهم.
والثالث: أنه حتى لو صح الخبر وكان فيه أنه لم يكن ركع ; لكان ممكنا أن يكون قبل أمر النبي - عليه السلام - من جاء والإمام يخطب بالركوع، وممكن أن يكون ركع ; فإذ ليس فيه بيان بأحد الوجهين فلا حجة لهم ولا عليهم.
والرابع: أنه لو صح الخبر وصح أنه لم يكن ركع، وصح أن ذلك كان بعد أمره - عليه السلام - من جاء والإمام يخطب بأن يركع -وكل ذلك لا يصح منه شيء- لما كانت لهم فيه حجة ; لأننا لم نقل: إنهما فرض، وإنما قلنا: إنهما سنة يكره تركهما وليس فيه حكم صلاتهما فبطل تعلقهم بهذا الخبر الفاسد جملة.
قلت: كل هذا كلام فاسد ناشئ عن قلة فطانة ويبس دماغ، وكيف يكون هذا الخبر فاسدا وقد أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود وسكت عنه وهو دليل الصحة عنده، وكيف يضعف nindex.php?page=showalam&ids=17109معاوية بن صالح وقد وثقه nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين nindex.php?page=showalam&ids=12013وأبو زرعة الإمامان في هذا الشأن، ووثقه nindex.php?page=showalam&ids=14765العجلي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي أيضا، واحتج به nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم في "صحيحه"، واحتجت به الأربعة أيضا، وباقي كلامه خلط لا يستحق الجواب لسقوطه، والله أعلم.