276 ص: وقالوا: ولا حجة لكم في هذه الآثار; لأنها إنما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها، ولم تأت في ثياب يصلي فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها ، ولا تجوز الصلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المني كذلك، وإنما يكون هذا الحديث حجة علينا لو كنا نقول: لا يصلح النوم في الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك، ونوافق ما رويتم عن النبي - عليه السلام - في ذلك، ونقول من بعد: لا تصلح الصلاة في ذلك، فلم نخالف شيئا مما روي في ذلك عن النبي عليه السلام.
ش: أي قال الآخرون: "لا حجة لكم في هذه الآثار" أي الأحاديث التي رويت عن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة فيما مضى "لأنها إنما جاءت في ثياب ينام فيها" أي النبي - صلى الله عليه وسلم - "ولم تأت في ثياب يصلي (عليها) " فإذا لم تكن هذه الآثار في الثياب التي يصلى فيها فيجوز أن يكون حكمها حكم الثياب النجسة بالغائط أو البول أو الدم، فإن هذه الثياب لا بأس بالنوم فيها، ولا يجوز الصلاة فيها، فيكون حكم المني كذلك، وباقي كلامه ظاهر.
فإن قيل: إذا كان المني نجسا عندكم كان ينبغي ألا يجوز الفرك فيه، كما في سائر النجاسات.
وقال: إذا أصاب المني ثوبا ذا طاقين فالطاق الأعلى يطهر بالفرك والأسفل لا يطهر إلا بالغسل; لأنه تصيبه البلة دون الجرم، وهذه مشكلة فإن الفحل لا يمني حتى يمذي، والمذي -بالتخفيف- لا يطهر بالفرك، إلا أنه جعل المذي في هذه الحالة معلوما مستهلكا بالمني، فكان الحكم للمني دون المذي.
وقال الإمام أبو إسحاق الحافظ المني اليابس إنما يطهر بالفرك، إذا كان رأس الذكر طاهرا وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، وأما إذا لم يكن طاهرا لا يطهر، قال: وهذا رواه nindex.php?page=showalam&ids=14111الحسن بن زياد عن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وكذلك إنما يتطهر المصاب بالفرك إذا خرج المني قبل خروج المذي، فأما إذا خرج المذي على رأس الإحليل، ثم خرج المني لا يطهر الثوب بالفرك. ثم إذا فرك المني اليابس عن الثوب وحكم بطهاراته، ثم أصابه الماء، هل يعود نجسا؟ فهو على الروايتين عن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، كذا في "المحيط".
وعن الفضلي إن مني المرأة لا يطهر بالفرك; لأنه رقيق.
فإن قيل: ما تقول في رواية nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني التي ذكرناها؟
قلت: إنما شبهه بالمخاط في لزوجته وقلة تداخله في الثوب، ولهذا أمره بإماطته؛ لأنه إذا أماطه عنه ذهب أكثره، وبقي القليل منه، مع أنه أمره بإماطته، والأمر للوجوب، ومن يقول بأنه طاهر لا يوجب إزالته.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون الأمر للإباحة؟
قلت: أعلى مراتب الأمر الوجوب، وأدناها الإباحة، وهنا لا وجه للثاني; لأنه - عليه السلام - لم يتركه على ثوبه أبدا، وكذلك الصحابة من بعده، والأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ ينصرف إلى الكامل، اللهم إلا أن يصرف ذلك عنه بقرينة تقوم، فتدل عليه حينئذ.
[ ص: 445 ] فإن قيل: قال الله تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا سماه ماء وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل أنه أراد به الشبيه في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرا.
قلت: إن تسميته ماء لا يدل على طهارته; فإن الله سمى مني الدواب ماء بقوله: والله خلق كل دابة من ماء ولا يدل ذلك على طهارة ماء كل الحيوان.
وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : حديث الفرك يدل على طهارة المني، وحديث الغسل لا يخالفه، إنما هو استحباب واستظهار بالنظافة، كما قد يغسل من النخامة والمخاط، والحديثان إذا أمكن استعمالهما لم يجز أن يحملا على التناقض.
قلت: ما ادعى أحد المخالفة بين الحديثين ولا التناقض، وإنما يدل حديث الغسل على نجاسة المني، بدلالة غسله، وكان هذا هو القياس أيضا في بابه، ولكنه خص بحديث الفرك كما قلنا، ولا نسلم أن غسل هذا مثل غسل النخامة والمخاط.
لأنه ورد في حديث أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني في "سننه": "يا nindex.php?page=showalam&ids=56عمار ، ما نخامتك ولا دموعك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما يغسل الثوب من خمس: من البول، والغائط، والمني، والدم، والقيء" فانظر كيف ذكره بين الغائط والدم؟! والاستدلال به: أنه أمره بغسل الثوب عن المني بكلمة "إنما" وهي لإثبات المذكور ونفي ما عداه، وإثبات المذكور بنفي ما عداه يدل على التحقيق لا على البدل.
والثاني: أنه قرنه بالأشياء التي هي نجسة بالإجماع فكان حكمه حكم ما قرن به; لأن القران في الجملة الناقصة.
فإن قيل: قد قال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : لم يروه غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جدا.
[ ص: 446 ] قلت: قال nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار : وثابت بن حماد كان ثقة.
فإن قيل: قد قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : وأما حديث nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر "أن النبي - عليه السلام - قال: يا nindex.php?page=showalam&ids=56عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك ... " الحديث، فهو باطل لا أصل له; إنما رواه ثابت بن حماد ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16621علي بن زيد ، عن nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب ، عن nindex.php?page=showalam&ids=56عمار وعلي بن زيد غير محتج به، وثابت بن حماد متهم بالوضع.
قلت: كفاك أن الدراقطني أخرجه.
وقوله: nindex.php?page=showalam&ids=16621علي بن زيد غير محتج به لا تفيد دعواه; لأن nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلما روى له مقرونا بغيره، وروى له nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ، وقال رجل لابن معين اختلط nindex.php?page=showalam&ids=16621علي بن زيد ؟ قال: ما اختلط nindex.php?page=showalam&ids=16621علي بن زيد قط وهو أحب إلي من ابن عقيل ، ومن عاصم بن عبد الله . وقال nindex.php?page=showalam&ids=14765العجلي لا بأس به. وفي موضع آخر: يكتب حديثه. وروى له nindex.php?page=showalam&ids=11797الحاكم في المستدرك، وقال nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي : صدوق.
وفي "الجوهر النقي": وأما كون ثابت بن حماد متهما بالوضع فما رأيت أحدا بعد الكشف التام ذكره غير nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي ، وقد ذكر هو أيضا هذا الحديث في كتاب المعرفة، وضعف ثابتا هذا ولم ينسبه إلى التهمة بالوضع.
فإن قيل: إنه أصل الأنبياء والأولياء فيجب أن يكون طاهرا.
قلت: هو أصل الأعداء أيضا كنمروذ وفرعون وغيرهم، على أنا نقول: العلقة أقرب إلى الإنسان من المني وهي أيضا أصل الأنبياء، ومع هذا لا يقال: طاهرة، فعلم أن كون المني أصل الأنبياء - عليهم السلام - لا عبرة له في الطهارة، أو نقول: الواجب في خروج المني أكبر الطهارتين -وهو الغسل- والبول لا يجب بخروجه إلا الوضوء، فلو لم تكن نجاسته أقوى من نجاسة البول لم يكن حكمه أغلظ من حكمه.
فرضنا أنه طاهر، لكن مخرجه مخرج النجس لأنه يخرج من حيث يخرج البول فينجس; لاتصال النجس به.
فإن قيل: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط.
[ ص: 447 ] قلت: لا نسلم أن القياس صحيح; لأن المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلا، والمني موجب لأكبر الحدثين، وهو الجنابة، ولا نسلم أن سقوط الغسل يدل على الطهارة كما في موضع الاستنجاء.
فإن قيل: ما حكم المني إذا جف على البدن؟
قلت: قال مشايخ بخارى وسمرقند فيه: إنه كالثوب; لأن البلوى فيه أشد من البلوى في الثوب، فيطهر البدن كالثوب؛ دفعا للحرج.
وفي "مبسوط السرخسي " روي عن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة في المني إذا أصاب البدن: لا يطهر إلا بالغسل; لأن لين البدن يمنع زوال أثره بالحت.