قال: فينطلق، فيأتي جبريل - عليه السلام - ربه، فيقول الله - عز وجل - :
[ ص: 32 ] ائذن له، وبشره بالجنة. قال: فينطلق به جبريل، فيخر ساجدا قدر جمعة، ويقول الله - عز وجل - : ارفع رأسك يا محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه - عز وجل - ، خر ساجدا قدر جمعة أخرى، فيقول الله - عز وجل - : ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، قال: فيذهب ليقع ساجدا، فيأخذ جبريل - عليه السلام - بضبعيه، فيفتح الله - عز وجل - عليه من الدعاء شيئا لم يفتحه على بشر قط، فيقول: أي رب! خلقتني سيد ولد آدم، ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ولا فخر، حتى إنه ليرد على الحوض أكثر مما بين صنعاء وأيلة، ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الأنبياء، قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة، والنبي وليس معه أحد، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، قال: فإذا فعلت الشهداء ذلك، قال: يقول الله - عز وجل - : أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئا، قال: فيدخلون الجنة.
قال: ثم يقول الله - عز وجل - : انظروا في النار: هل تلقون من أحد عمل خيرا قط; قال: فيجدون في النار رجلا، فيقول له: هل عملت خيرا قط; فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع، فيقول الله - عز وجل - : أسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي.
ثم يخرجون من النار رجلا، فيقول له: هل عملت خيرا قط; فيقول: لا، غير أني قد أمرت ولدي: إذا مت فأحرقوني بالنار، ثم اطحنوني، حتى إذا كنت مثل الكحل، فاذهبوا بي إلى البحر، فاذروني في الريح، فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا، فقال الله - عز وجل - له: لم فعلت ذلك; قال: من مخافتك، قال: فيقول الله - عز وجل - : انظر إلى ملك أعظم ملك، فإن لك مثله وعشرة أمثاله، قال: فيقول: لم تسخر بي وأنت الملك; قال: وذاك الذي ضحكت منه من الضحى".
* "كل ذلك" : منصوب على أنه ظرف لقوله: "لا يتكلم"; أي: لا يتكلم في جميع ما ذكر من الأوقات.
* "عرض علي" : أي: أظهر لي.
* "فجمع الأولون" : على صيغة الماضي، إما لأنه عرض عليه كذلك، فحكي على ذلك، وإما لأنه لتحققه نزل منزلة ما قد تحقق، وفي بعض النسخ: "يجمع" - على صيغة المضارع - .
* "ففظع الناس" : من فظع بالأمر; كفرح: ضاق به ذرعا.
* "حتى انطلقوا إلى آدم" : قيل: الحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومن بعده من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ابتداء، ولم يلهمهم سؤال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: إظهار فضيلته صلى الله عليه وسلم; فإنهم لو سألوه ابتداء، لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا، وأما إذا سألوا غيره، ثم انتهوا إليه، فقد علم أن هذا المقام المحمود لا يقدر على الإقدام عليه غيره، - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين - .
* "يلجمهم" : من الإلجام، وهو إدخال اللجام في الفم; أي: يصل إلى أفواههم، فيمنعهم من الكلام، وهذا من نسبة حال بعض أفراد الجنس إليه، والله تعالى أعلم.
* "مثل الذي لقيتم" : أي: من شدة اليوم وطوله، إما لأن أصل الشدة تعم الكل، وإن اختلف قدرها في الناس، أو لأن ما اشتد على أولاده يشتد عليه
[ ص: 34 ] لأجلهم، والأظهر أن المراد: لقيت في الدنيا مثل ما لقيتم من الذنب، فإنه أظهر في كونه عذرا في عدم الإقدام على الشفاعة وأوفق.
* "إلى أبيكم بعد أبيكم" : أي: أبيكم الثاني، وهذا إما للتغليب، أو لأنه لم يكن في أولئك من تقدم نوحا أو عاصره، بل كل أولئك من ذرية نوح.
* "إن الله اصطفى. . . إلخ" : يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم استدل به على اصطفاء نوح; ليتبين به وجه اختيار آدم إياه للشفاعة، ويحتمل أن آدم يقرؤه يومئذ.
* "إلى سيد ولد آدم" : - بفتح الواو واللام - يطلق على الواحد والجمع، وجاء في الجمع - بضم فسكون - أيضا - ، والمشهور في الحديث الأول.
* "فإنه أول من تنشق" : كأن عيسى يقول كذلك حينئذ إحضارا للحالة العظيمة، أو أن - صيغة المضارع - وقعت منه صلى الله عليه وسلم في الحكاية نظرا إلى الحالة الراهنة، وإلا فالظاهر: انشقت; لكون هذا الكلام من عيسى بعد وقوع الانشقاق وقوله: "يوم القيامة" يؤيد الوجه الثاني.
* "فينطلق" ; أي: محمد إلى ربه للشفاعة، وهذا اللفظ إما من كلام الصديق يحكي به معنى ما سمع، أو من كلامه صلى الله عليه وسلم، ذكر نفسه على وجه الغيبة تنبيها على أنه يوم يغيب عنه فيه نفسه، إما هيبة لجلاله - تعالى - ، أو لأنه في شأن أمته على خلاف سائر الخلق; فإنهم في شأن أنفسهم كما هو معلوم، ففي الكلام على الوجه الثاني التفات لطيف، وفي بعض النسخ: "فينطلقون": أي: الخلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى النسختين في الكلام إيجاز كثير لا يخفى شأنه.
* "وقل يسمع" : أي: قولك، والسماع كناية عن القبول.
* "تشفع" : أي: تقبل شفاعتك، لكن قد جاء أنه يحد له من يشفع فيهم.
* "قال: فيذهب" : أي: بعد أن يرفع رأسه مرة ثانية، يريد: وأن يخر ساجدا مرة ثالثة - أيضا - .
* "حتى إنه" : غاية لمقدر مفهوم من المقام; أي: فيؤذن لي في الشفاعة، فأشفع، فيكون ما يكون.
* "حتى إنه ليرد علي" : - بتشديد الياء - كأنه خلص ما كان فيه من الغم الذي غاب عنه النفس لأجله، فرجع إلى التكلم تنبيها على ذلك، ولا يمكن تخفيف الياء; لأن ورد يتعدى إلى الماء بنفسه، قال تعالى: ولما ورد ماء مدين [القصص: 23].
* "ثم يقال: ادعوا الصديقين" : أي: يقول الله تعالى للملائكة، وتقديم الصديقين على الأنبياء يحتمل أن يكون من الرواة سهوا; فإن الرواة وإن كانوا ثقات كما في "مجمع الزوائد"، ويشهد له الرجوع إلى معرفة حالهم، لكن الثقة غير معصوم من السهو، ويحتمل أن المراد: الصديقون من هذه الأمة، وهم يتقدمون تبعا، والتقدم تبعا غير ضار في قدر المتأخر.
* "ادعوا الشهداء" : جمع شهيد; أي: الذين قتلوا في الله، أو شاهدوا، والمراد: قوم بأعيانهم، أو هذه الأمة; لقوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس [البقرة: 143]، والله تعالى أعلم.
* "فيقول له" : أي: الملك.
* "أسمحوا" : من أسمح، لغة في سمح: إذا جاوز وأعطى عن كرم.
[ ص: 36 ] * "لا يقدر علي" : أي: بهذا الطريق; أي: ولئن قدر علي، يعذبني، وكأنه لم يقل ذلك تكذيبا للقدرة، بل قال لأنه لحقه من شدة الحال ما غير عقله، وصيره كالمجنون المبهوت، فلم يدر ماذا يقول وماذا يفعل، وهكذا حال العاجز المتحير في الأمر، يفعل كل ما يقدر عليه في ذلك الحال، ولا يدري أنه ينفعه ذلك أم لا، ويحتمل أنه اعتقد استحالة الإعادة بهذا الطريق، ثم نفى القدرة على ذلك، فالخطأ في اعتقاد بعض الممكنات مستحيل، أو ليس هذا من الكفر، والله تعالى أعلم.
ثم المشاهير تدل على أن الله قد غفر للتاجر المسامح، ولمن أوصى أولاده بذلك عند الموت، فإما أن يقال: تلك الأحاديث في غير هذين، أو يقال: المراد بالمغفرة في المشاهير أنه قرر لهما المغفرة، ولو بعد حين، والله تعالى أعلم.
* "إلى ملك أعظم ملك" : الأول - بضم فسكون - ، والثاني - بفتح فكسر - ، والأول مضاف إلى أعظم المضاف إلى الثاني.
* "لم تسخر بي؟" : يقول لعدم رؤية نفسه أهلا لذلك، والله تعالى أعلم.