(الثالثة) يحتمل أن يكون سبب هذا التمني ما يرى من البلاء والمحن والشدائد والفتن فيرى الموت الذي هو أعظم المصائب أهون مما هو فيه فيتمنى المصيبة الهينة في اعتقاده ، ويحتمل أن يكون سببه ما يرى من تغيير الشريعة وتبديل الدين فيتمنى الموت لسلامة دينه ، وقد ذكر الاحتمالين nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض ، والثاني منهما مردود لقوله في الرواية الأخرى ، وليس به الدين إلا البلاء أي لا يحمله على ذلك أمر الدين ، وإنما يحمله عليه البلاء ، وقد جزم nindex.php?page=showalam&ids=13331ابن عبد البر بهذا الاحتمال المردود فقال ظن بعض الناس أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت ، وقال في هذا إباحة تمنيه ، وليس كما ظن ، وإنما هذا خبر أن ذلك سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين ، وضعفه ، وخوف ذهابه لا لضرر ينزل بالمؤمن في جسمه ا هـ ، وقد عرفت أن رواية nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من طريق nindex.php?page=showalam&ids=11973أبي حازم ترده فإن قلت إذا لم يكن كذلك فما الجمع بينه وبين النهي عن تمني الموت ؟ قلت لا معارضة بينهما حتى يحتاج إلى جمع لأن هذا الحديث إخبار عن شدة تحصل ينشأ عنها هذا التمني ، وليس فيه الحكم على هذا التمني بشيء لا بتحريم ولا كراهة ، ولا [ ص: 260 ] إباحة فالحديث إنما سيق للإخبار عما سيقع .
وأما حكم التمني فمأخوذ من حديث آخر ، وجزم أبو العباس القرطبي بالاحتمال الأول الراجح ثم قال ، وكأن هذا إشارة إلى أن أكثر الفتن والمشقات والأفكار قد أذهبت الدين من أكثر الناس أو أقلت الاعتناء به فمن يتمسك بالدين عند هجوم الفتن ؟ ولذلك عظم قدر العبادة في حالة الفتن حتى قال صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=985623العبادة في الهرج كهجرة إلي ا هـ .
(الرابعة) تبويب المصنف رحمه الله على هذا الحديث يحتمل أن يكون موافقة nindex.php?page=showalam&ids=13332لابن عبد البر nindex.php?page=showalam&ids=14961، والقاضي عياض في أحد احتماليه أن سبب هذا التمني مصيبة الدين ، وهو حينئذ مردود كما تقدم ، ويحتمل أنه أخذ من قوله في تلك الرواية التي في nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم ، وليس به الدين أنه لو كان به الدين لم يكن مذموما ، وفيه نظر فإنه ليس في الحديث ما يدل على ذم ذلك ، ولا مدحه ، وإنما سبق للإخبار عن الشدائد التي تحصل في آخر الزمان بحيث يصل الحال إلى تمني الموت بسببها ، وهذا النزاع إنما هو في كيفية الاستنباط في هذا الحديث أما الحكم ، وهو تمني الموت لمصلحة الدين فلا نزاع فيه ، وقد ذكره nindex.php?page=showalam&ids=13331ابن عبد البر عن أبي عبس الغفاري صحابي nindex.php?page=showalam&ids=2، وعمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=16673، وعمر بن عبد العزيز nindex.php?page=showalam&ids=16004، وسفيان الثوري ، وقال النووي لا كراهة فيه ، وقد فعله خلائق من السلف عند خوف الفتنة في دينهم .
(الخامسة) قوله حتى يمر الرجل بقبر الرجل الظاهر أن ذكر الرجل في الموضعين خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له فالمرأة في ذلك كالرجل ، ويحتمل أنه إنما يحصل هذا التمني للرجال خاصة ، فإنهم الذين يبتلون بالشدائد والمحن ، ويظهر فيهم ثمرة الفتن بخلاف النساء فإنهن محجوبات في الأغلب لا يصلين نار الفتن قال الشاعر
(السادسة) قد يفهم من الحديث أن هذا التمني لا يعرض للإنسان إلا عند رؤية القبر ، وذلك قد يدل على خفة هذا التمني ، وعدم تأكده فلو تأكد لاستحضره من غير رؤية القبر .
ويحتمل أن يقال هذا أبلغ لأن الإنسان قد يتمنى الموت من غير استحضار لهيئته وصورته فإذا استحضره وتصوره ، وشاهد الموتى ، ورأى القبور نفر من هذا الأمر ، وأحب الحياة ، ولم يعد [ ص: 261 ] يتمنى الموت ولما كان الرجل مستمرا على تمني الموت مع ذلك دل على تأكد هذا الأمر وقوته عنده ، إذ لم يصرفه عنه ما شاهد من وحشة القبور ، وفي تلك الرواية التي عند nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم مبالغة في ذلك الأمر وهو أنه يتمرغ على القبر ، وذلك يدل على تأكد تمنيه وشدة تعلقه به والله أعلم