صفحة جزء
ذكر الزجر عن الرغبة عن الآباء ، إذ رغبة

المرء عن أبيه ضرب من الكفر

414 - أخبرنا الحسن بن سفيان بنسا ، وأحمد بن علي بن المثنى بالموصل ، والفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة ، واللفظ للحسن ، قالوا : حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ابن أخي جويرية بن أسماء قال : حدثنا عمي جويرية بن أسماء عن مالك بن أنس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أخبره أن عبد الله بن عباس ، أخبره أنه كان يقرئ عبد الرحمن بن عوف ، في خلافة عمر بن الخطاب ، قال : فلم أر رجلا يجد من الأقشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة .

قال ابن عباس : فجئت ألتمس عبد الرحمن يوما ، فلم أجده ، فانتظرته في بيته حتى رجع من عند عمر ، فلما رجع ، قال لي : لو رأيت رجلا آنفا ، قال لعمر كذا وكذا ، وهو يومئذ بمنى ، في آخر حجة حجها عمر بن الخطاب ، فذكر [ ص: 153 ] عبد الرحمن لابن عباس : أن رجلا أتى إلى عمر ، فأخبره أن رجلا قال : والله لو مات عمر لقد بايعت فلانا ، قال عمر حين بلغه ذلك : إني لقائم - إن شاء الله - العشية في الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذين يغتصبون الأمة أمرهم .

فقال عبد الرحمن : فقلت يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ذلك يومك هذا ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس ، وغوغاءهم ، وإنهم هم الذين يغلبون على مجلسك ، فأخشى إن قلت فيهم اليوم مقالا أن يطيروا بها ، ولا يعوها ، ولا يضعوها على مواضعها ، أمهل حتى تقدم المدينة ، فإنها دار الهجرة والسنة ، وتخلص لعلماء الناس وأشرافهم ، فتقول ما قلت متمكنا ، فيعوا مقالتك ، ويضعوها على مواضعها .

قال عمر : والله لئن قدمت المدينة صالحا ، لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه .

قال ابن عباس : فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، وجاء يوم الجمعة ، هجرت صكة الأعمى لما أخبرني عبد الرحمن ، فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير ، فجلس إلى ركن جانب المنبر الأيمن ، فجلست إلى جنبه تمس [ ص: 154 ] ركبتي ركبته ، فلم ينشب عمر أن خرج ، فأقبل يؤم المنبر ، فقلت لسعيد بن زيد ، وعمر مقبل : والله ليقولن أمير المؤمنين على هذا المنبر اليوم مقالة لم يقلها أحد قبله ، فأنكر ذلك سعيد بن زيد وقال : ما عسى أن يقول ما لم يقله أحد قبله ؟

فلما جلس على المنبر ، أذن المؤذن ، فلما أن سكت ، قام عمر فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ، لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها ، فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعيها ، فلا أحل له أن يكذب علي : إن الله جل وعلا ، بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ، وعقلناها ، ووعيناها ، ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا ، بعده ، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف .

ثم إنا قد كنا نقرأ أن لا ترغبوا عن آبائكم ، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم .

ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تطروني كما أطري ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله .

ثم إنه بلغني أن فلانا منكم يقول : والله لو قد مات عمر [ ص: 155 ] لقد بايعت فلانا . فلا يغرن امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، فإنها قد كانت كذلك ، إلا أن الله وقى شرها ، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن عليا والزبير ، ومن معهما تخلفوا عنا ، وتخلفت الأنصار عنا بأسرها ، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون ، إلى أبي بكر ، فبينا نحن في منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ رجل ينادي من وراء الجدار : اخرج إلي يا ابن الخطاب ، فقلت : إليك عني فإنا مشاغيل عنك ، فقال : إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه ، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا ، فيكون بينكم وبينهم فيه حرب ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم ، فلقينا أبو عبيدة بن الجراح ، فأخذ أبو بكر بيده ، فمشى بيني وبينه ، حتى إذا دنونا منهم لقينا رجلان صالحان فذكرا الذي صنع القوم ، وقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟

فقلت : نريد إخواننا من هؤلاء الأنصار ، قالا : لا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم . فقلت : والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم ، فإذا هم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين أظهرهم رجل مزمل ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة ، [ ص: 156 ] قلت : فما له ؟ قالوا : هو وجع ، فلما جلسنا ، تكلم خطيب الأنصار ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين ، رهط منا ، وقد دفت دافة من قومكم ، قال عمر : وإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحطوا بنا منه ، قال : " فلما قضى مقالته ، أردت أن أتكلم ، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني ، أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري من أبي بكر بعض الحدة ، فلما أردت أن أتكلم . قال أبو بكر : على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبو بكر ، وهو كان أحلم مني وأوقر ، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا تكلم بمثلها أو أفضل في بديهته حتى سكت ، فتشهد أبو بكر ، وأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، أيها الأنصار ، فما ذكرتم فيكم من خير ، فأنتم أهله ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره من مقالته غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم ، أحب إلي من أن [ ص: 157 ] أؤمر على قوم فيهم أبو بكر ، إلا أن تغير نفسي عند الموت ، فلما قضى أبو بكر مقالته ، قال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، قال عمر : فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى أشفقت الاختلاف ، قلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط أبو بكر يده ، فبايعه وبايعه المهاجرون والأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل من الأنصار : قتلتم سعدا ، قال عمر : فقلت وأنا مغضب : قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر ، وإنا والله ما رأينا فيما حضر من أمرنا أمرا أقوى من بيعة أبي بكر ، فخشينا إن فارقنا القوم قبل أن تكون بيعة ، أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم ، فيكون فسادا ، فلا يغترن امرؤ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، فقد كانت فلتة ، ولكن الله وقى شرها ، ألا وإنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر
.

قال مالك : أخبرني الزهري ، أن عروة بن الزبير أخبره أن الرجلين الأنصاريين اللذين لقيا المهاجرين هما : عويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي ، وزعم مالك أن الزهري سمع سعيد بن [ ص: 158 ] المسيب يزعم أن الذي قال يومئذ : أنا جذيلها المحكك ، رجل من بني سلمة ، يقال له : حباب بن المنذر .

قال أبو حاتم - رضي الله عنه - : قول عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، ولكن الله وقى شرها ، يريد أن بيعة أبي بكر كان ابتداؤها من غير ملأ ، والشيء الذي يكون عن غير ملأ ، يقال له : الفلتة ، وقد يتوقع فيما لا يجتمع عليه الملأ الشر ، فقال : وقى الله شرها ، يريد الشر المتوقع في الفلتات ، لا أن بيعة أبي بكر كان فيها شر .

التالي السابق


الخدمات العلمية