المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1508 [ 778 ] وعن جابر بن عبد الله قال : انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم . فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات ; بدأ فكبر ، ثم قرأ فأطال القراءة (وفي رواية : فأطال القيام حتى جعلوا يخرون)، ثم ركع نحوا مما قام ، ثم رفع رأسه من الركوع ، فقرأ قراءة دون القراءة الأولى ، ثم ركع نحوا مما قام ، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءة دون القراءة الثانية ، ثم ركع نحوا مما قام ، ثم رفع رأسه من الركوع ، ثم انحدر بالسجود فسجد سجدتين ، ثم قام فركع أيضا ثلاث ركعات ، ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها ، وركوعه نحو من سجوده . ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه ، حتى انتهينا (وفي رواية : حتى انتهى) إلى النساء ، ثم تقدم وتقدم الناس معه ، حتى قام في مقامه فانصرف حين انصرف وقد آضت الشمس فقال : يا أيها الناس ! إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس ، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا حتى تنجلي ، ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه ، لقد جيء بالنار ، وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها ، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار ; وكان يسرق الحاج بمحجنه ، فإن فطن له قال : إنما تعلق بمحجني ، وإن غفل عنه ذهب به ، وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها ، فلم تطعمها ، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا . (وفي رواية : فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل . وفيها : ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار . وفي أخرى : فرأيت فيها امرأة حميرية سوداء طويلة - ولم يقل : من بني إسرائيل)، ثم جيء بالجنة ، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي ، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ، ثم بدا لي ألا أفعل ، فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه .

رواه مسلم (904) (10) ، وأبو داود (1178 و 1179) ، والنسائي (3 \ 136) .


وقوله : ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا إلى النساء ، هذا التأخر كان في الصلاة ، وهو الذي عبر عنه في الحديث الآخر بالقهقرى ، الذي فعله مخافة أن يصيبه لفح النار ، على ما فسره بعد . وكونه تقدم - أي : رجع - إلى الموضع الذي كان فيه ، ويحتمل أن يعبر بذلك على التقدم الذي تقدمه ليتناول القطف من الجنة ، والله - تعالى - أعلم .

وهذا يدل على أن العمل غير الكثير في الصلاة لا يفسدها ، وسيأتي خروج النساء إليها .

وآضت الشمس ; أي : عادت إلى حالتها الأولى ، واختلف النحويون في آض : هل هي من أخوات كان فتحتاج إلى اسم وخبر ، أو إنما تتعدى إلى مفعول [ ص: 560 ] واحد بحرف الجر ؟ على قولين .

وهذا الحديث يدل على أنها مما تتعدى إلى مفعول واحد بحرف جر ، غير أنه حذف هنا ، وقد يحذف حرف الجر فينتصب ما يحذف منه حرف الجر ; كما قال :

وآض روض اللهو يبسا ذاويا



وقد روي هذا الحرف هنا : أضاءت الشمس ; أي : ظهر ضوؤها ، يقال : ضاءت الشمس ، وأضاءت بمعنى واحد .

وقوله : فصلوا حتى تنجلي ; أي : تنكشف ، وهذا يدل على أن وقت الكسوف ينبغي أن يكون معمورا بالصلاة ، فإما بتطويل الصلاة ، أو بتعديد الركعات كما تقدم ، وهذا الأمر على جهة الندب ; بدليل : أنه قد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - انصرف منها قبل أن تنجلي الشمس . ولفح النار : شدة لهبها وتأثيره ، ومنه قوله - تعالى - : تلفح وجوههم النار [ المؤمنون : 104] واللفح أشد تأثيرا من النفح ; كما قال - تعالى - : ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك [ الأنبياء :46 ] ; أي : أدنى شيء منه ; قاله الهروي .

والمحجن : عصا معقفة الطرف ; وهي الخطاف . والقصب : الأمعاء ; بضم القاف ، وهي الأقتاب أيضا . وخشاش الأرض : بفتح الخاء والشين [ ص: 561 ] المعجمتين ، وهي هوام الأرض ، وقيل : صغار الطير ، ويقال : بكسر الخاء . وحكي عن أبي علي : أنه يقال : بضمها . وقيل : لا يقال في الطير إلا بالفتح .

التالي السابق


الخدمات العلمية