وفي رواية : لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر .
رواه أحمد ( 1 \ 399 و 451 ) ، ومسلم ( 91 ) ، وأبو داود ( 4091 ) ، والترمذي ( 1999 ) ، وابن ماجه ( 59 ) .
[ ص: 286 ] (30) ومن باب : لا يدخل الجنة من في قلبه كبر
الكبر والكبرياء في اللغة : هو العظمة ، يقال فيه : كبر الشيء ، بضم الباء ، أي : عظم ، فهو كبير وكبار ، فإذا أفرط قيل : كبار ، بالتشديد ; وعلى هذا فيكون الكبر والعظمة اسمين لمسمى واحد .
وقد جاء في الحديث ما يشعر بالفرق بينهما ; وذلك أن الله تعالى قال : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما ، قصمته ; فقد فرق بينهما بأن عبر عن أحدهما بالإزار ، وعن الآخر بالرداء ، وهما مختلفان ، ويدل أيضا على ذلك قوله : فمن نازعني واحدا منهما ; إذ لو كانا واحدا ، لقال : فمن نازعنيه . فالصحيح إذن الفرق ، ووجهه : أن جهة الكبرياء : يستدعي متكبرا عليه ; ولذلك لما فسر الكبر ، قال : الكبر : بطر الحق ، وغمط الناس ، وهو احتقارهم ، فذكر المتكبر عليه ، وهو الحق أو الخلق ، والعظمة : لا تقتضي ذلك .
فالمتكبر يلاحظ ترفع نفسه على غيره بسبب مزية كمالها فيما يراه ، والمعظم يلاحظ كمال نفسه من غير ترفع لها على غيره ، وهذا التعظيم هو المعبر عنه بالعجب في حقنا إذا انضاف إليه نسيان منة الله تعالى علينا فيما خصنا به من ذلك الكمال .
وإذا تقرر هذا : فالكبرياء والعظمة من أوصاف كمال الله تعالى [ ص: 287 ] واجبان له ; إذ ليست أوصاف كمال الله وجلاله مستفادة من غيره ، بل هي واجبة الوجود لذواتها ، بحيث لا يجوز عليها العدم ولا النقص ، ولا يجوز عليه تعالى نقيض شيء من ذلك ، فكماله وجلاله حقيقة له ; بخلاف كمالنا ، فإنه مستفاد من الله تعالى ، ويجوز عليه العدم وطروء النقيض والنقص .
وإذا كان هذا ، فالتكبر والتعاظم خرق منا ، ومستحيل في حقنا ; ولذلك حرمهما الشرع ، وجعلهما من الكبائر ; لأن من لاحظ كمال نفسه ناسيا منة الله تعالى فيما خصه به ، كان جاهلا بنفسه وبربه ، مغترا بما لا أصل له ، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله : أنا خير منه وصفة فرعون الحاملة له على قوله : أنا ربكم الأعلى [ النازعات : 24 ] ولا أقبح مما صارا إليه ; فلا جرم كان فرعون وإبليس أشد أهل النار عذابا ; نعوذ بالله من الكبر والكفر .
وأما من لاحظ من نفسه كمالا ، وكان ذاكرا فيه منة الله تعالى عليه به ، وأن ذلك من تفضله تعالى ولطفه ، فليس من الكبر المذموم في شيء ، ولا من التعاظم المذموم ، بل هو اعتراف بالنعمة ، وشكر على المنة . والتحقيق في هذا : أن الخلق كلهم قوالب وأشباح ، تجري عليهم أحكام القدرة ; فمن خصه الله تعالى بكمال ، فذلك الكمال يرجع للمكمل الجاعل ، لا للقالب القابل . ومع ذلك : فقد كمل الله الكمال بالجزاء والثناء عليه ; كما قد نقص النقص بالذم والعقوبة عليه ، فهو المعطي والمثني ، والمبلي والمعافي ; كيف لا وقد قال العلي الأعلى : أنا الله خالق الخير والشر ; فطوبى لمن خلقته للخير وقدرته عليه ، والويل لمن خلقته للشر وقدرته عليه ; فلا حيلة تعمل مع قهر ; لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء : 23 ] .
[ ص: 288 ] ولما تقرر أن الكبر يستدعي متكبرا عليه ، فالمتكبر عليه إن كان هو الله تعالى ، أو رسوله ، أو الحق الذي جاءت به رسله ; فذلك الكبر كفر . وإن كان غير ذلك ; فذلك الكبر معصية وكبيرة ، يخاف على المتلبس بها المصر عليها أن تفضي به إلى الكفر ، فلا يدخل الجنة أبدا .
فإن سلم من ذلك ، ونفذ عليه الوعيد ، عوقب بالإذلال والصغار ، أو بما شاء الله من عذاب النار ، حتى لا يبقى في قلبه من ذلك الكبر مثقال ذرة ، وخلص من خبث كبره حتى يصير كالذرة ; فحينئذ يتداركه الله برحمته ، ويخلصه بإيمانه وبركته . وقد نص على هذا المعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحبوسين على الصراط لما قال : حتى إذا هذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة ، والله تعالى أعلم .
و (قوله : " إن الله جميل يحب الجمال ") : الجمال لغة : هو الحسن ; يقال : جمل الرجل يجمل بالضم ، جمالا ; فهو جميل ، والمرأة جميلة ، ويقال : جملاء عن الكسائي .
وهذا الحديث يدل على أن الجميل من أسماء الله تعالى ، وقال بذلك جماعة من أهل العلم ، إلا أنهم اختلفوا في معناه : فقيل : معناه معنى الجليل ; قاله القشيري .
وقيل : معناه ذو النور والبهجة ، أي : مالكهما ; قاله nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي . وقيل : جميل الأفعال بكم والنظر إليكم ; فهو يحب التجمل منكم في قلة إظهار الحاجة إلى غيره ; قاله الصيرفي . وقال : الجميل : المنزه عن النقائص ، الموصوف بصفات الكمال ، الآمر بالتجمل له بنظافة الثياب والأبدان ، والنزاهة عن الرذائل والطغيان ، وسيأتي القول في أسماء الله تعالى .
وبطر الحق : إبطاله ; من قول العرب : ذهب دمه بطرا وبطرا ; أي : باطلا .
[ ص: 289 ] وقال nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : البطر : الحيرة ، أي : يتحير عند الحق ; فلا يراه حقا . وغمط الناس : احتقارهم واستصغارهم ; لما يرى من رفعته عليهم ، وهو بالغين المعجمة والطاء المهملة . ويروى : " غمص " بالصاد المهملة في كتاب nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي ، ومعناهما واحد ; يقال : غمط الناس وغمصهم : إذا احتقرهم . والمثقال : مفعال من الثقل ، ومثقال الشيء : وزنه ، يقال : هذا على مثقال هذا ، أي : على وزنه .
والمراد بالإيمان في هذا الحديث : التصديق القلبي المذكور في حديث جبريل ، ويستفاد منه : أن التصديق القلبي على مراتب ، ويزيد وينقص ; على ما يأتي في حديث الشفاعة ، إن شاء الله تعالى .
وهذه النار المذكورة هنا : هي النار المعدة للكفار التي لا يخرج منها من دخلها ; لأنه قد جاء في أحاديث الشفاعة المذكورة بعد هذا أن خلقا كثيرا ممن في قلبه ذرات كثيرة من الإيمان يدخلون النار ، ثم يخرجون منها بالشفاعة أو بالقبضة ; على ما يأتي ، ووجه التلفيق : أن النار دركات ; كما قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ النساء : 145 ] وأهلها في العذاب على مراتب ودركات ; كما قال الله تعالى : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ غافر : 46 ] ، وأن نار من يعذب من الموحدين أخفها عذابا ، وأقربها خروجا ; فمن أدخل النار من الموحدين ، لم يدخل نار الكفار ، بل نارا أخرى يموتون فيها ، ثم يخرجون منها ; كما جاء في الأحاديث الصحيحة الآتية بعد هذا ، إن شاء الله تعالى .