وفي رواية : فلما أهويت لأقتله ، قال : لا إله إلا الله .
رواه أحمد ( 6 \ 4- 6 ) ، والبخاري ( 4019 ) ، ومسلم ( 95 ) ، وأبو داود ( 2644 ) .
[ ص: 293 ] (32) ومن باب يكتفى بظاهر الإسلام ، ولا يبقر عما في القلوب
(قوله : " أرأيت إن جاء رجل من الكفار ، فقاتلني ؟ ") دليل على جواز السؤال عن أحكام النوازل قبل وقوعها . وقد روي عن بعض السلف : كراهية الكلام في النوازل قبل وقوعها ، وهذا إنما يحمل على ما إذا كانت تلك المسائل مما لا تقع ، أو تقع نادرا ، فأما ما يتكرر من ذلك ، ويكثر وقوعه : فيجب بيان أحكامها على من كانت له أهلية ذلك ، إذا خيف الشغور عن المجتهدين والعلماء في الحال أو في الاستقبال ; كما قد اتفق عليه أئمة المسلمين من السلف : لما توقعوا ذلك ، فرعوا الفروع ودونوها وأجابوا عما سئلوا عنه من ذلك ; حرصا على إظهار الدين ، وتقريبا على من تعذرت عليه شروط الاجتهاد من الحقين .
و (قوله : " لاذ مني بشجرة ") أي : استتر ; يقال : لاذ يلوذ لواذا : إذا استتر ، والملاذ : ما يستتر به .
و (قوله : " أسلمت لله ") أي : دخلت في دين الإسلام ، وتدينت به . وفيه : دليل [ ص: 294 ] على أن كل من صدر عنه أمر ما يدل على الدخول في دين الإسلام من قول أو فعل ، حكم له لذلك بالإسلام ، وأن ذلك ليس مقصورا على النطق بكلمتي الشهادة .
وقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام بني جذيمة الذين قتلهم nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد ، وهم يقولون : صبأنا صبأنا ، ولم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا ، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : اللهم ، إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، رافعا يديه إلى السماء ، ثم وداهم .
على أن قوله في هذه الرواية : أسلمت لله يحتمل أن يكون ذلك نقلا بالمعنى ، فيكون بعض الرواة عبر عن قوله : لا إله إلا الله بأسلمت ; كما قد جاء مفسرا في رواية أخرى قال فيها : فلما أهويت لأقتله ، قال : لا إله إلا الله .
وأهويت : ملت لقتله ; قال الجوهري : أهوى إليه بيده ليأخذه ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : أهويت بالشيء : إذا أومأت إليه ، ويقال : أهويت له بالسيف ، فأما هوى ، فمعناه : سقط إلى أسفل ، ويقال : انهوى بمعناه ، فهو منهو .
و (قوله : " إن قتلته ، فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ") يعني ، والله أعلم : أنه بمنزلتك في عصمة الدم ; إذ قد نطق بما يوجب عصمته من كلمتي الإسلام .
و (قوله : " وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ") ظاهره : في الكفر ، وليس ذلك بصحيح ; لأنه إنما قتله متأولا أنه باق على كفره ; فلا يكون قتله كبيرة ; [ ص: 295 ] وإذا لم يكن قتله كبيرة ، لم يصح لأحد - وإن كان مكفرا بالكبائر - أن يقول : " هذا كفر " بوجه ; فدل ذلك على أنه متأول . وقد اختلف في تأويله ; فقال nindex.php?page=showalam&ids=15003أبو الحسن بن القصار : هو مثله في كونه غير معصوم الدم معرضا للقصاص .
قال المؤلف - رحمه الله - : وهذا ليس بشيء ; لانتفاء سبب القصاص ، وهو العمد العدوان ، وذلك منتف هنا قطعا ; لأن nindex.php?page=showalam&ids=53المقداد تأول ما تأوله أسامة بن زيد : أنه قال ذلك خوفا من السلاح ; ألا ترى قول nindex.php?page=showalam&ids=53المقداد : إنه قد قطع يدي ، ثم لاذ مني بشجرة ، فلما أهويت لأقتله ، قال : لا إله إلا الله ؟ غير أن هذا التأويل لم يسقط عنهما التوبيخ والذم ، ولا توقع المطالبة بذلك في الآخرة ; ألا ترى قوله - عليه الصلاة والسلام - لأسامة : كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! ، وكرر ذلك عليه ، ولم يستغفر له مع سؤال أسامة ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإنما لم يسقط عنه التوبيخ والتأثيم وإن كان متأولا ; لأنه أخطأ في تأويله ; وعلى هذا : يمكن أن يحمل قوله : إنك بمنزلته قبل أن تقتله ، على أنه بمنزلته في استحقاق الذم والتأثيم ، ويكون هذا هو التأويل الثاني فيه ، غير أن الاستحقاق فيهما مختلف ; فإن استحقاق nindex.php?page=showalam&ids=53المقداد لذلك الاستحقاق مقصر في اجتهاد مؤمن ، والآخر استحقاقه استحقاق كافر ، وإنما وقع التشبيه بينهما في مجرد الاستحقاق فقط ، والله أعلم .
التأويل الثالث : أنه بمنزلته في إخفاء الإيمان ، أي : لعله ممن كان يخفي [ ص: 296 ] إيمانه بين الكفار ، فأخرج مكرها كما كنت أنت بمكة ; إذ كنت تخفي إيمانك . ويعتضد هذا التأويل : بما زاده nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في هذا الحديث ، من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ; أنه - عليه الصلاة والسلام - قال للمقداد : إذا كان مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته ؟ كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة .