( الكديد ) ما بينه وبين مكة اثنان وأربعون ميلا . و ( عسفان ) قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة . وفي الحديث الآتي : (كراع الغميم) . والغميم - بفتح الغين - : واد أمام عسفان بثمانية أميال . و ( كراع ) : جبل أسود هناك يضاف إلى الغميم . والكراع لغة : هو كل أنف مال من جبل أو غيره .
وهذه الأحاديث المشتملة على ذكر هذه المواضع الثلاثة كلها ترجع إلى معنى واحد . وهي حكاية حاله - صلى الله عليه وسلم - عن سفر في قدومه إلى فتح مكة . وكان في رمضان في ستة عشر منه ، كما جاء في حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد . وهذه المواضع متقاربة . ولذلك عبر كل واحد من الرواة بما حضر له من تلك المواضع لتقاربها واختلف فيحكم الفطر في السفر ; فالجمهور على أن المسافر إن صام في سفره أجزأه . وذهب بعض أهل الظاهر : [ ص: 176 ] إلى أنه لا يجزئه ، ولا ينعقد ، وعليه القضاء أبدا . وحكي عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : أنه قال : من صام في السفر قضى في الحضر . وحكي أنه مذهب nindex.php?page=showalam&ids=2عمر . ومتمسك هؤلاء : ظاهر قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ; أي : فعليه عدة ، أو فالواجب عدة . وتأوله الجمهور : بأن هناك محذوفا ، تقديره : فأفطر . واستدلوا على صحته بما يأتي بعد هذا من الأحاديث الآتية في هذا الباب . وكره nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل الصوم في السفر ، ولم يأمر بالقضاء .
واختلف الجمهور في الأفضل : هل هو الصوم أو الفطر ؟ أو لا فضيلة لأحدهما على الآخر . وممن ذهب إلى الأول nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك في المشهور عنه ، nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، على أن الفطر من باب الرخص ، وأن فعل الصوم مبادرة إلى تخليص الذمم ، ومسابقة إلى الخيرات ، وقد أمر الله بذلك في قوله : فاستبقوا الخيرات وإلى الثاني ذهب nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ، وغيرهما . وعلى الثالث جل أهل المذهب ، وهو التخيير ، وعليه تدل الأحاديث المذكورة في هذا الباب .
ثم هل هذا في كل سفر : طاعة كان أو معصية ، طويلا كان أو قصيرا ؟ وقد تقدم ذكر الخلاف فيه في باب : قصر الصلاة في السفر .
وقوله : ( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في رمضان ; فصام ، فلما بلغ الكديد أفطر ) ; هذا حجة على من يقول : إن الصوم لا ينعقد في السفر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صام من خروجه من المدينة إلى أن بلغ الكديد ، وصام الناس معه . وهو حجة لمن يقول : إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر ، وإن لم يكن له عذر ، وإليه ذهب nindex.php?page=showalam&ids=17098مطرف ، وهو أحد قولي nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وعليه جماعة من أصحاب الحديث .
والجمهور على منع ذلك إلا لعذر ، متمسكين بأنه قد شرع في أخذ ما خير فيه ; فيلزمه المضي فيه ; إذ قد عينه بفعله ، وحملوا فطر النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجود العذر المسوغ من حصول الضعف بالصوم عن مقاومة العدو ، وعن القيام بوظائف [ ص: 177 ] الجهاد ، ولما حصل لهم من الجهل والمشقة بالصوم ، كما قال : فسقط الصوام ، وقد روى nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار من حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ما هم فيه ، ووصل إلى الماء ، قال لهم : (اشربوا) ، فقالوا : لا نشرب حتى تشرب . قال : (إني لست مثلكم ، إني راكب وأنتم مشاة) ، فقالوا : لا نشرب حتى تشرب ، فشرب ، وشربوا .
وعلى مذهب المنع فلو أفطر من غير عذر فهل تلزمه الكفارة ، أو لا تلزمه ؟ ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين أن يفطر بجماع ، فتجب ، أو بغيره فلا تجب . وكذلك اختلف فيمن طرأ عليه السفر ، وقد بيت الصوم في الحضر . فالجمهور على أنه لا يجوز أن يفطر إلا مع العذر . فلو أفطر من غير عذر ففي الكفارة ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين المتأول ، فتسقط عنه ، وبين غيره ، فلا تسقط .
وقوله : ( وكان صحابته - صلى الله عليه وسلم - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ) ; وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري كما فسره في الرواية الأخرى ونسبه إليه . ولذلك ذكره nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم بعده . وظاهر [ ص: 178 ] كلام nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب : أن الذي استقر عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - إنما كان : الفطر في السفر ، وأن الصوم السابق منسوخ .
ويمكن أن يحمل قول nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : على أنه أراد أن يخبر بقاعدتهم الكلية الأصولية في الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما تحققت فيه المعارضة ، لا في هذا الموضع ; فإنه لم يتحقق فيه المعارضة ، والله تعالى أعلم .