رواه أحمد (2 \ 273)، والبخاري (1904)، ومسلم (1151) (163 و 164 )، والنسائي (4 \ 162-163) .
(19) ومن باب: فضل الصيام
قوله : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ) ; اختلف في معنى هذا على أقوال : [ ص: 212 ] أحدها : أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها ، فيكون لهم ، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص ; لأن حال الممسك شبعا ، كحال الممسك تقربا ، وارتضاه nindex.php?page=showalam&ids=15140المازري .
وثانيها : أن أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظ إلا الصيام فإنهم لا حظ لهم فيه ; قاله nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي .
وثالثها : أن أعمالهم هي أوصافهم ، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام ; فإنه استغناء عن الطعام ، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى .
ورابعها : أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا ، كما قال : (بيتي) و (عبادي) .
والأولى حمل الحديث على أحد الأوجه الخمسة المتقدمة ; فإنها أبعد عن الاعتراضات الواقعة ، والله تعالى أعلم .
وقوله : ( يذر شهوته وطعامه من أجلي ) ; تنبيه على الجهة التي بها يستحق الصوم أن يكون كذلك ، وهو الإخلاص الخاص به ، كما قدمناه في الوجه الأول .
وقوله : ( الصيام جنة ) ، مادة هذه اللفظة التي هي : الجيم والنون كيف ما دارت صورها بمعنى : السترة ; كالجن ، والجنة ، والجنون ، والمجن ; فمعناه : أن الصوم سترة ، فيصح أن يكون ( جنة ) بحسب مشروعيته ; أي : ينبغي للصائم أن يعريه مما يفسده ، ومما ينقص ثوابه ; كمناقضات الصيام ، ومعاصي اللسان . وإلى هذه الأمور وقعت الإشارة بقوله : ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ، ولا [ ص: 214 ] يسخب ) إلخ ، ويصح أن يسمى : ( جنة ) بحسب فائدته ، وهو إضعاف شهوات النفس ، وإليه الإشارة بقوله : ( ويذر شهوته وطعامه من أجلي ) . ويصح أن يكون " جنة " بحسب ثوابه . وإليه التصريح بقوله : ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ) .
وقوله : ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب ) ، لا يفهم من هذا الشرط : أن غير يوم الصوم يباح فيه الرفث والسخب ، فإنهما ممنوعان على الإطلاق ، وإنما تأكد منعهما بالنسبة إلى الصوم .
والرفث : الفحش من الكلام ، والسخب منه . يقال : (رفث) بفتح الفاء ، (يرفث) ، بضمها ، وكسرها . و (رفث) بكسرها في الماضي (يرفث) بفتحها في المستقبل (رفثا) بسكونها في المصدر ، وفتحها في الاسم . ويقال : (أرفث) أيضا ، وهي قليلة .
و (السخب) : اختلاط الأصوات ، وكثرتها ، ورفعها بغير الصواب . يقال : بالسين والصاد . وعند nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : مكان : (لا يسخب) (لا يسخر) ; يعني : السخرية بالناس ، والأول هو المعروف .
وقوله : ( فإن أحد سابه أو قاتله فليقل : إني صائم ) ; المسابة والمقاتلة مما لا تكون إلا من اثنين غالبا ، ولم تقع هنا إلا من أحدهما ، لكنه لما عرض أحدهما [ ص: 215 ] الآخر لذلك صدق اللفظ عليهما .
وظاهره : أن الصائم يقول ذلك القول المأمور به للساب ليسمعه ، وليعلمه اعتصامه بالصوم ، فينكف عن سبه . ويحتمل أن يراد أنه يقول ذلك لنفسه مذكرا لها بذلك ، وزاجرا عن السباب .
واختلف إذا سب الصائم أحدا ، أو اغتابه : فالجمهور على أن ذلك ليس بمفسد للصوم . وذهب nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي : إلى أن ذلك مفطر مفسد . وبه قال الحسن فيما أحسب .
وقوله : ( لخلوف فم الصائم ) ، هكذا الرواية الصحيحة ; بضم الخاء ، ومن لا يحقق بقوله بفتح الخاء . وقال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : هو خطأ . قال nindex.php?page=showalam&ids=12002الهروي : خلف فوه : إذا تغير ، يخلف ، خلوفا . ومنه : حديث nindex.php?page=showalam&ids=8علي وسئل عن قبلة الصائم فقال : (وما أربك إلى خلوف فيها ؟) .
ويقال : نومة الضحى مخلفة للفم ; أي : مغيرة . قال صاحب " الأفعال " : خلف فوه ، وأخلف .
وقد أخذ nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي من هذا الحديث منع الصائم من السواك من بعد الزوال . قال : لأن ذلك الوقت مبدأ الخلوف ، قال : والسواك يذهبه . وربما نظم بعض الشافعية في هذا قياسا ، فقال : أثر عبادة فلا يزال كدم الشهيد .
وهذا القياس ترد عليه أسئلة من جملتها ; القول : ومع أن السواك يزيل الخلوف ، فإنه من المعدة والحلق ، لا من محل السواك ، وحينئذ لا يلزم شيء من ذلك . وقد أجاز كافة العلماء للصائم أن يتسوك بسواك لا طعم له ، في أي أوقات النهار شاء .
وقوله : ( أطيب عند الله من ريح المسك ) ; لا يتوهم : أن الله تعالى يستطيب الروائح ، ويستلذها ، كما يقع لنا من اللذة ، والاستطابة ; إذ ذاك من صفات افتقارنا ، واستكمال نقصنا ، وهو الغني بذاته ، الكامل بجلاله وتقدسه . على أنا نقول : إن الله تعالى يدرك المدركات ، ويبصر المبصرات ، ويسمع المسموعات على الوجه اللائق بجماله وكماله وتقدسه عن شبه مخلوقاته ، وإنما معنى هذه الأطيبية عند الله تعالى راجعة إلى أن الله تعالى يثيب على خلوف فم الصائم ثوابا [ ص: 216 ] أكثر مما يثيب على استعمال روائح المسك ، حيث ندب الشرع إلى استعماله فيها ، كالجمع والأعياد وغير ذلك . ويحتمل أن يكون ذلك في حق الملائكة ، فيستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك .
وقوله : ( وللصائم فرحتان : إذا أفطر فرح بفطره ) ; أي : فرح بزوال عطشه وجوعه حين أبيح له الفطر . وهذا الفرح طبيعي ، وهو السابق للفهم . وقيل : إن فرحه بفطره ; إنما هو من حيث إنه: تمام صومه ، وخاتمة عبادته ، وتحقيق ريه ومعونته على مستقبل صومه .
وأما قوله : ( وإذا لقي ربه فرح بصومه ) ; أي : بجزاء صومه وثوابه .