" ما " هذه التي في أول الآية بمعنى الذي ، وهي متناولة لمن يعقل وما لا يعقل ، وهي هنا عامة لا تخصيص فيها بوجه ; لأن كل من في السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما : خلق الله تعالى ، وملك له . وهذا إنما يتمشى على مذهب أهل الحق والتحقيق الذين يحيلون على الله تعالى أن يكون في السماء أو في الأرض ; إذ لو كان في شيء ، لكان محصورا محدودا ، ولو كان كذلك ، لكان محدثا . وعلى هذه القاعدة : فقوله تعالى : أأمنتم من في السماء [ الملك : 16 ] وقول الأمة [ ص: 336 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها : أين الله ؟ فقالت : في السماء ، ولم ينكر عليها ذلك ، وما قد روي عن بعض السلف أنهم كانوا يطلقون ذلك ، ليس على ظاهره ، بل هو مؤول تأويلات صحيحة قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم ، لكن السلف - رضي الله عنهم أجمعين - كانوا يجتنبون تأويل المتشابهات ، ولا يتعرضون لها ، مع علمهم بأن الله تعالى يستحيل عليه سمات المحدثات ، ولوازم المخلوقات ، واستيفاء المباحث هذه في علم الكلام .
و (قوله : " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ") ما : هذه أيضا على عمومها ، فتتناول كل ما يقع في نفس الإنسان من الخواطر ; ما أطيق دفعه منها وما لا يطاق ; ولذلك أشفقت الصحابة من محاسبتهم على جميع ذلك ومؤاخذتهم به ، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : كلفنا ما نطيق بالصلاة والصيام ، وهذه الآية لا نطيقها .
ففيه دليل على أن موضوع " ما " للعموم ، وأنه معمول به فيما طريقه الاعتقاد ; كما هو معمول به فيما طريقه العمل ، وأنه لا يجب التوقف فيه إلى البحث على المخصص ، بل يبادر إلى استغراق الاعتقاد فيه ، وإن جاز التخصيص ، وهذه المسائل اختلف فيها ; كما بيناه في " الأصول " .
ولما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك القول منهم ، أجابهم بأن قال : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا [ ص: 337 ] وعصينا ؟! بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما فهموه ، وبين لهم أن لله تعالى أن يكلف عباده بما يطيقونه وبما لا يطيقونه ، ونهاهم عن أن يقع لهم شيء مما وقع لضلال أهل الكتاب من المخالفة ، وأمرهم بالسمع والطاعة ، والتسليم لأمر الله تعالى على ما فهموه ، فسلم القوم لذلك وأذعنوا ، ووطنوا أنفسهم على أنهم كلفوا في الآية بما لا يطيقونه ، واعتقدوا ذلك ، فقد عملوا بمقتضى ذلك العموم ، وثبت وورد ، فإن قدر رافع لشيء منه ، فذلك الرفع نسخ لا تخصيص .
وعلى هذا : فقول الصحابي : فلما فعلوا نسخها الله على حقيقة النسخ ، لا على جهة التخصيص ; خلافا لمن لم يظهر له ما ذكرناه ، وهم كثير من المتكلمين على هذا الحديث ، ممن رأى أن ذلك من باب التخصيص ، لا من باب النسخ ، وتأولوا قول الصحابي : إنه نسخ ; على أنه أراد بالنسخ التخصيص ، وقال : إنهم كانوا لا يفرقون بين النسخ والتخصيص ، وقد كنت على ذلك زمانا إلى أن ظهر لي ما ذكرته ، فتأمله ; فإنه الصحيح ، إن شاء الله تعالى .
و (قوله : " إنهم - يعني : الصحابة إنهم - كانوا لا يفرقون بين النسخ والتخصيص ") إن أراد به : أنهم لم ينصوا على الفرق فمسلم ، وكذلك أكثر مسائل علم الأصول ، بل كله ; فإنهم لم ينصوا على شيء منها ، بل فرعوا عليها ، وعملوا على مقتضاها ، من غير عبارة عنها ولا نطق بها ، إلى أن جاء من بعدهم ، ففطنوا لذلك وعبروا عنه ، حتى صنفوا فيه التصانيف المعروفة ، وأولهم في ذلك nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رحمه الله - فيما علمنا . وإن أراد بذلك : أنهم لم يكونوا يعرفون الفرق بين النسخ والتخصيص ، ولا عملوا عليه : فقد نسبهم إلى ما يستحيل عليهم ; لثقابة أذهانهم ، [ ص: 338 ] وصحة فهومهم ، وغزارة علومهم ، وأنهم أولى بعلم ذلك من كل من بعدهم ; كيف لا وهم أئمة الهدى ، وبهم إلى كل العلوم يقتدى ، وإليهم المرتجع ، وقولهم المتبع ، وكيف يخفى عليهم ذلك ، وهو من المبادئ الظاهرة على ما قررناه في " الأصول " .
و (قوله : " لا نفرق بين أحد من رسله ") أي : يقولون : لا نفرق بين أحد منهم ; في العلم بصحة رسالاتهم ، وصدقهم في قولهم .
وغفرانك : منصوب على المصدر ، أي : اغفر غفرانك ، وقيل : مفعول بفعل مضمر ، أي : هب غفرانك . والمصير : المرجع . والتكليف : إلزام ما في فعله كلفة ، وهي النصب والمشقة . والوسع : الطاقة .
وهذه الآية تدل على أن لله تعالى أن يكلف عباده بما يطيقونه وما لا يطيقونه ، ممكنا كان أو غير ممكن ، لكنه تعالى تفضل بأنه لم يكلفنا ما لا نطيقه ، وبما لا يمكننا إيقاعه ، وكمل علينا بفضله برفع الإصر والمشقات التي كلفها غيرنا . واستيفاء مباحث هذه المسألة في علم الكلام والأصول .
و (قوله : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ") أي : ما كسبت من خير ، فلها ثوابه ، وما اكتسبت من شر ، فعليها عقابه . وكسب واكتسب : لغتان بمعنى واحد ; كقدر واقتدر .
والإصر : العهد الذي يعجز عنه ; قاله nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وقال الربيع : هو الثقل العظيم ، وقال ابن زيد : هو الذنب الذي لا توبة له ، ولا كفارة .
و (قوله : " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ") قيل : اعف عن الكبائر ، واغفر الصغائر ، وارحم بتثقيل الموازين ، وقيل : اعف عن الأقوال ، واغفر الأفعال ، وارحم بتوالي الألطاف وسني الأحوال . قلت : وأصل العفو : التسهيل ، والمغفرة ، والستر ، والرحمة : إيصال النعمة إلى المحتاج .
ومولانا : ولينا ، ومتولي أمورنا ، وناصرنا .
ونعم : حرف جواب ، وهو هنا إجابة لما دعوا فيه ، كما قال في الرواية [ ص: 340 ] الأخرى عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : قد فعلت بدل قوله هنا : نعم . وهو إخبار من الله تعالى : أنه أجابهم في تلك الدعوات ، فكل داع يشاركهم في إيمانهم وإخلاصهم واستسلامهم ، أجابه الله تعالى كإجابتهم ; لأن وعده تعالى صدق ، وقوله حق . وكان nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ يختم هذه السورة بآمين كما يختم الفاتحة ، وهو حسن .