رواه مسلم ( 139 ) ، وأبو داود ( 3245 ) ، والترمذي ( 1340) .
و (قوله : " إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي ") وفي الرواية الأخرى : انتزى ، بمعنى غلب ، وهو من النزو ، وهو الارتفاع ، وهو دليل على [ ص: 348 ] أن المدعي لا يلزمه تحديد المدعى به إن كان مما يحد ، ولا أن يصفه بجميع أوصافه كما يوصف المسلم فيه ، بل يكفي من ذلك أن يتميز المدعى به تمييزا تنضبط به الدعوى ، وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك .
خلافا لما ذهبت الشافعية إليه ; حيث ألزموا المدعي أن يصف المدعى به بحدوده وأوصافه المعينة التامة ، كما يوصف المسلم فيه . وهذا الحديث حجة عليهم ; ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكلفه تحديد الأرض ولا تعيينها ، بل لما كانت الدعوى متميزة في نفسها ، اكتفى بذلك .
وظاهر هذا الحديث : أن والد المدعي قد كان توفي ، وأن الأرض صارت للمدعي بالميراث ، ومع ذلك فلم يطالبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بإثبات الموت ولا بحصر الورثة ; فيحتمل أن يقال : إن ذلك كان معلوما عندهم ، ويحتمل أن يقال : لا يلزمه إثبات شيء من ذلك ، ما لم يناكره خصمه ، والله أعلم .
وفيه : حجة لمن لا يشترط الخلطة في توجه اليمين على المدعى عليه ، وقد اشترط ذلك nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، واعتذر له عن هذا الحديث : بأنها قضية في عين ، ولعله - صلى الله عليه وسلم - علم بينهما خلطة ، فلم يطالبه بإثباتها ، والله تعالى أعلم .
و (قوله : " إن الرجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه ، وليس يتورع من شيء ") الفاجر : هو الكاذب الجريء على الكذب ، والورع : الكف ، ومنه قولهم : " روعوا اللص ولا تورعوه " أي : لا تنكفوا عنه . وظاهر هذا الحديث : أن ما يجري بين المتخاصمين في مجلس الحكم من مثل هذا السب والتقبيح : جائز ، ولا شيء فيه ; إذ لم ينكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ; وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم . والجمهور : لا يجيزون شيئا من ذلك ، ويرون إنكار ذلك ويؤدبون عليه ; تمسكا بقاعدة تحريم السباب والأعراض .
واعتذروا عن هذا الحديث : بأنه محتمل لأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أن المقول له ذلك القول كان كما قيل له ; فكان القائل صادقا ولم يقصد أذاه بذلك ، وإنما قصد منفعة يستخرجها ، فلعله إذا شنع عليه ، فقد ينزجر بذلك ، فيرجع به للحق . ويحتمل : أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه ولم يزجره ; لأن المقول له لم يطلب حقه في ذلك ، والله أعلم .
[ ص: 350 ] و (قوله : " شاهداك أو يمينه ") دليل على اشتراط العدد في الشهادة ، وعلى انحصار طرق الحجاج في الشاهد واليمين ، ما لم ينكل المدعى عليه عن اليمين ، فإن نكل ، حلف المدعي واستحق المدعى فيه ، فإن نكل ، فلا حكم ، ويترك المدعى فيه في يد من كان بيده ، وسيأتي القول في الشاهد واليمين .
و (قوله : " ليلقين الله وهو عنه معرض ") أي : إعراض الغضبان ، كما قال في الحديث الآخر : وهو عليه غضبان . وقد تقدم القول في غضب الله تعالى وفي رضاه ، وأن ذلك محمول إما على إرادة عقاب المغضوب عليه وإبعاده ، وإرادة إكرام المرضي عنه . أو على ثواب تلك الإرادة ، وهو الإكرام أو الانتقام . وفيه : دليل على ندبية وعظ المقدم على اليمين .
و (قوله : " فانطلق ليحلف " ) دليل على أن اليمين لا تبذل أمام الحاكم ، بل لها موضع مخصوص ، وهو أعظم مواضع ذلك البلد ; كالبيت بمكة ، ومنبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، ومسجد بيت المقدس ، وفي المساجد الجامعة من سائر الأمصار ; لكن ذلك فيما ليس بتافه ، وهو مما لا تقطع فيه يد السارق ، وهو أقل من ربع دينار عند nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ; فيحلف فيه حيث كان مستقبل القبلة ، وفي ربع الدينار فصاعدا ; لا يحلف إلا في تلك المواضع ، وخالفه nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة في ذلك ، فقال : لا تكون اليمين إلا حيث كان الحاكم .
وظاهر هذا الحديث : أن المدعى عليه إذا حلف ، انقطعت حجة خصمه ، وبقي المدعى فيه بيده ، وعلى ملكه في ظاهر الأمر ، غير أنه لا يحكم له الحاكم بملك ذلك ; فإن غايته أنه جائز ، ولم يجد ما يزيله عن حوزه ، فلو سأل المطلوب تعجيز الطالب بحيث لا تبقى له حجة ، فهل للحاكم تعجيزه وقطع حجته أم لا ؟ قولان بالنفي والإثبات . وفي هذا الحديث أبواب من علم القضاء لا تخفى .