رواه أحمد ( 1 \ 226 ) والبخاري ( 1834)، ومسلم ( 1353)، وأبو داود (2480)، والترمذي (1590)، والنسائي ( 7 \ 146).
[ ص: 468 ] (57) ومن باب: تحريم مكة
قوله " لا هجرة بعد الفتح " ، هذا رفع لما كان تقرر من وجوب الهجرة إلى المدينة على أهل مكة باتفاق وعلى غيرهم بخلاف ، ولم يتعرض هذا العموم لنفي هجرة الرجل بدينه ; إذ تلك الهجرة ثابتة إلى يوم القيامة ، وإنما رفع حكم الهجرة يوم الفتح لكثرة ناصري الإسلام ولظهور الدين وأمن الفتنة عليه .
وقوله " ولكن جهاد ونية " دليل على بقاء فرض الجهاد وتأبيده خلافا لمن أنكر فرضيته على ما يأتي .
وقوله " وإذا استنفرتم فانفروا " ; أي : طلب منكم الإمام النفير. وهو : الخروج إلى الغزو ، فحينئذ يتعين الغزو على من استنفر بلا خلاف.
وقوله " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة " ، معنى " حرمه الله " أي حرم على غير المحرم دخوله إلا أن يحرم . ويجري هذا مجرى قوله : حرمت عليكم أمهاتكم [النساء: 23] ; أي : وطؤهن . و حرمت عليكم الميتة [المائدة: 3] ; أي : أكلها . فعرف الاستعمال دل على تعيين المحذوف . وقد دل على صحة هذا المعنى [ ص: 469 ] اعتذاره - صلى الله عليه وسلم - عن دخول مكة غير محرم مقاتلا بقوله " إنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار . . . " الحديث ، وبهذا أخذ nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي - في أحد قوليهما - وكثير من أصحابهما ، فقالوا : لا يجوز لأحد أن يدخل مكة إلا محرما ، إلا أن يكون ممن يكثر التكرار إليها كالحطابين ونحوهم . وقد أجاز دخولها لغير المحرم nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب والحسن والقاسم ، وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث ، وقال بذلك nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة إلا لمن منزله وراء المواقيت ، فلا يدخلها إلا بإحرام ، واتفق الكل على أن من أراد الحج أو العمرة أنه لا يدخلها إلا محرما .
ثم اختلف أهل القول الأول فيمن دخلها غير محرم ; فقال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : أنه لا دم عليه ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء والحسن بن حيي : يلزمه حج أو عمرة - ونحوه قال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة فيمن منزله وراء المواقيت .
ومتمسك من قال بجواز دخولها لغير المحرم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المواقيت المتقدم : " هن لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج أو العمرة) ، وتأولوا الحديث المتقدم بأن قالوا : إنما اعتذر - صلى الله عليه وسلم - عن دخوله مكة مقاتلا كما قال : (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . .) الحديث .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض : لم يختلف في دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أنه كان حلالا ; لدخوله والمغفر على رأسه ، ولأنه دخلها محاربا حاملا للسلاح هو وأصحابه . ولم يختلفوا في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وكذلك لم يختلفوا في أن من دخلها لحرب أو لشيء أنه لا يحل له أن يدخلها حلالا .
وقوله " وإنه لم يحل القتال لأحد قبلي " ، الضمير في " أنه " هو ضمير الأمر والشأن ، وظاهر هذا أن حكم الله تعالى كان في مكة ألا يقاتل أهلها ويؤمن من [ ص: 470 ] استجار بها ولا يتعرض له ، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [آل عمران: 97] وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة وغيره . قالوا : هو آمن من الغارات . وهو ظاهر قوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [العنكبوت: 67] وهو منقول من عادة العرب في احترامهم مكة ، ومن كتب التواريخ .
وقوله " ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام " ، الضمير في " يحل " هو ، وهو يعود على القتال قطعا كما يدل عليه مساقه ، فيلزم منه تحريم القتال فيه مطلقا ، سواء كان ساكنه مستحقا للقتال أو لم يكن ، وهو الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار " .
وقوله " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا : إن الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم " ، وهذا نص على الخصوصية واعتذار منه عما أبيح له من ذلك ، مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتل والقتال لصدهم عنه وإخراجهم أهله منه وكفرهم بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الذي فهمه أبو شريح من هذا الحديث . وقد قال بذلك غير واحد من أهل العلم ; منهم . . . ، غير أن هذا يعارضه ما جاء في حديث أبي شريح من قول عمرو بن سعيد على ما يأتي .
وقوله " لا يعضد شوكه " ، وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة " لا يختبط شوكه ، ولا يعضد شجره " ، يعضد : يقطع . والمعضد : الآلة التي يقطع بها . والخبط : ضرب أوراق الشجر بالعصي لعلف المواشي . يقال : خبط واختبط . والمصدر منه : [ ص: 471 ] خبطا - بسكون الباء ، والاسم بتحريكها .
و (الخلى) مقصور ، هو الرطب من الكلأ مقصورا مهموزا . والحشيش : هو اليابس منه ، والكلأ يقال على الخلى والحشيش . والشجر : ما كان على ساق . وفي بعض طرقه " شجراؤها " وهو جنس الشجر ، وهي العضاه أيضا في الحديث الآخر. والعضاه من شجر البادية : كل شجر له شوك . ومنه ما يسمى بـ (الكنهبل) و (السيال) ، ولهذا الحديث خص الفقهاء مطلق الشجر المنهي عن قطعه مما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي اتفاقا منهم ، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فيجوز قطعه .
ثم اختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول ; فقال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : لا جزاء فيه لعدم ما يدل على ذلك . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة : فيه الجزاء - فعند nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة تؤخذ قيمة ما قطع فيشترى بها هدي ، وعند nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في الدوحة - وهي الشجرة العظيمة - بقرة وفيما دونها شاة. وأما قطع العشب للرعي فمنع ذلك nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد بن الحسن ، وأجازه غيرهما .
وقوله " ولا ينفر صيده " ; أي : لا يهاج عن حاله ولا يعرض له. قال عكرمة : هو أن ينحيه من الظل إلى الشمس - وقد تقدم القول فيه .
وقوله " ولا يلتقط لقطته إلا منشد " ، اتفق رواة المحدثين على ضم اللام وفتح القاف من اللقطة، هنا أرادوا به الشيء الملتقط ، وليس كذلك عند أهل اللسان ، قال nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل : اللقطة بفتح القاف اسم للذي يلتقط ، وبسكونها لما يلتقط . قال الأزهري : هذا قياس اللغة ; لأن (فعلة) في كلامهم جاء فاعلا كالهزأة للذي يهزأ بالناس ، وجاء مفعولا كالهزأة للذي يهزأ به الناس ، إلا أن الرواة أجمعوا على أن اللقطة الشيء الملتقط . و (المنشد) : هو المعرف . و (الناشد) : هو الطالب والباغي ، كما قال :
أنشدوا الباغي يحب الوجدان
[ ص: 472 ] وقال الآخر :
إصاخة الناشد للمنشد
يقال : نشدت الضالة طلبتها ، وأنشدتها عرفتها . وأصل الإنشاد الصوت ، ومنه إنشاد الشعر . وقد أفاد ظاهر هذا الحديث وما في معناه أن للقطة مكة مزية على لقطة غيرها ، لكن اختلف العلماء في أي شيء تلك المزية ؟ فقالت طائفة : هي أنها لا تحل للملتقط بوجه من الوجوه ، ولا يزال يعرفها دائما . وممن ذهب إلى هذا : أبو عبيد ، nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، nindex.php?page=showalam&ids=16349وابن مهدي ، والداودي ، والباجي ، وابن العربي من أصحابنا ، ويعتضدون بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الحاج . وقالت طائفة أخرى : إن المزية هي أنها لا يحل التقاطها إلا إن سمع من ينشدها ، فيأخذها ويرفعها له . وذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في المشهور عنه إلى أن المزية أنها هي في زيادة التعريف والمبالغة فيها ، وحكمها وحكم غيرها من البلاد سواء ، وسيأتي بيان أحكامها ، والقول الأول أظهر من الأحاديث المذكورة في هذا الباب.
وقد فسر بعضهم المنشد بالطالب ، يعني به ربها ; أي لا تحل إلا له .
ويرجع هذا إلى القول الأول ، وقد تقدم أن المنشد هو المعرف على ما قال أبو عبيد وغيره .
و (الإذخر) : هو نبت له رائحة طيبة معروفة . وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في جواب [ ص: 473 ] nindex.php?page=showalam&ids=18العباس وقد سأله عن الإذخر " إلا الإذخر " دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فوضت إليه أحكام فكان يحكم فيها باجتهاده ، واستيفاء المسألة في الأصول . وقد يورد على هذا أن يقال : إذا كانت مكة مما حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فكيف لأحد أن يحكم بحلية شيء منها وقد حرمه الله ؟ والجواب أن الذي حرمه الله هو ما عدا المستثنى جملة ; لأنه لما جعل لنبيه التخصيص مع علمه بأنه يخصص كذا ، فالمحكوم به لله تعالى هو ما عدا ذلك المخصص ، والله تعالى أعلم .